* أكرم البني
ثمة لازمة يكررها عادة النظام السوري حين يحرز تقدماً عسكرياً لافتاً في إحدى المناطق: بأن الأزمة انتهت وما تواجهه البلاد سيغدو بعد وقت قريب، أي أسابيع أو أشهر، من مخلفات الماضي. وهي لازمة سرعان ما تصطدم بواقع عنيد ينقضها وبتطورات ميدانية تؤكد استمرار الصراع، وربما أشد. والجديد اتكاء النظام اليوم على ما حققه وحلفاؤه من نتائج عسكرية منذ معركة حلب، لإيهام نفسه والمجتمع بأن انتصاره العظيم والنهائي صار في متناول اليد، تحدوه مبادرات تبدو مدروسة للإيحاء بأن الحياة بدأت تعود إلى سابق عهدها.
من هذه القناة يمكن النظر، إلى جولات تتم من دون حراسات ظاهرة، يصطنعها أهم المسؤولين للقاء الناس في بعض الأحياء والأسواق الشعبية وأيضاً إلى زيارات لهم، تبدو عفوية وتلقائية، لبعض دور العبادة ولخطوط جبهات القتال ولأسر الجرحى والشهداء، ثم إلى إزالة بعض الحواجز الأمنية من وسط دمشق وساحات مدينتي حمص وحماة ومن الطريق الدولي الذي يصل العاصمة بالساحل السوري، ولا يضير هذه المبادرات أو الإيحاءات بل يؤكدها في عرف النظام، سقوط بعض قذاف الهاون على أحياء العاصمة وتواتر عمليات انتحارية (كتفجير ثلاث سيارات مفخخة أخيراً في دمشق) على أنها محاولات يائسة من قبل جماعات الإرهاب لتغطية هزائمها وتعويض عجزها عن وقف النجاحات الأمنية والعسكرية لقوات السلطة.
للأسف، لم تفارق النظام الأوهام، وهو في أشد لحظات تراجعه، عن تحقيق «انتصار» يسحق عبره قطاعات واسعة رافضة له من الشعب السوري، متوسلاً ما يملكه من وسائل قهر وفتك، وما استجره من قوى ودعم خارجيين، من دون أن يقيم أي اعتبار لما يخلفه العنف المفرط من ضحايا ومشردين ولاجئين. من خراب معمم للمناطق الآهلة وللبنية التحتية. من تهتك وتردي مختلف القطاعات الحيوية وأهمها الكهرباء والمياه. من وضع معيشي لم يعد يطاق مع الغلاء الفاحش وتوقف غالبية المشاريع الإنتاجية.
من شروخ وعداوات مذهبية أججها قاصداً ليمرر سياسات التهجير القسري، حتى لو شرع ذلك الأبواب أمام مشاريع التقسيم وتقاسم النفوذ، وعزز تغييب دور الدولة العمومي ومؤسساتها الخدمية والتعليمية والصحية عن ملايين المشردين واللاجئين، وعن مساحات مهمة من الوطن باتت تكتظ بآلاف المقاتلين المهجرين من مناطق محاصرة، ويترقبون في كل لحظة استعار المعارك ضد النظام وحلفائه!
هو أمر مؤسف ومحزن اعتبار ما أوصل النظام البلاد إليه انتصاراً، فلا معنى لهذا «الانتصار» إلا إذا تم اختصاره في ما تخلفه قوة قمعية هائلة من موت ودمار في البلدات والمناطق المتمردة، أو كتفريغ رغبة ثأرية تعتمل في نفوس أسياد البلاد ضد من يعتبرونهم عبيداً متمردين وناكري الجميل، أو إذا تم تفسيره كنجاح للعنف المفرط والاستفزازات الطائفية في استثارة أسوأ الغرائز المفككة المجتمع وتشويه حراك البشر والطعن بمشروعية مطالبهم، أو كتشجيع لكل حامل سلاح على انتهاك أبسط حقوق الناس بما هو إباحة كل شيء أمام «حماة الديار» كي ينهبوا ويسرقوا ويعيثوا فساداً من دون مساءلة أو محاسبة، والأسوأ اعتباره انتصاراً لعملية استباقية، طالما سعى النظام إليها، لتلقين أجيال السوريين، درساً مروعاً كي لا يحلموا أو يفكروا، مجرد حلم أو تفكير، في التمرد والثورة.
وتبقى المسألة التي لم يدركها النظام أو لا يريد إدراكها أن استمراره في السلطة ليس سوى الوجه الآخر لانكسار المجتمع وتدميره، وأن ما يسميه انتصاراً هو أكبر هزيمة لوطن كان يقدر له أن ينمو وينهض كي يحتل موقعاً مشرفاً في سلم الحضارة الإنسانية، هو انتصار لنهج دأب على قمع وقهر شعب يتطلع لنيل حقوقه المشروعة ككل شعوب الأرض، والأخطر هو انتصار التفريط بسيادة البلاد وتسهيل استباحتها وتطويع مكوناتها في صراع النفوذ بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية على المنطقة، الأمر الذي لم يقف عند الحضور السياسي والعسكري الفاضح للداعمين الروسي والإيراني، بل امتد ليشمل تدخلاً أميركياً يحاول تعزيز نفوذه بعد طرد «داعش» من مناطق مهمة في شرق البلاد وشمالها، وسبقه التمدد العسكري التركي وما انتزعه من مواقع على طول الشريط الحدودي غدت عملياً أوراق ابتزاز وضغط بيده، من دون أن نغفل الدور الإسرائيلي الذي صار أكثر تأثيراً في رسم مستقبل وطننا، وأكثر حرية في توجيه ضرباته أينما يرغب ووقت يشاء؟
فأي مأساة تحل بوطن تصر نخبته الحاكمة على الاستئثار بالسلطة لتخضع، بفعل القوة والعنف والإرهاب، شعباً مهزوماً ومفجوعاً وتتوهم الانتصار؟ وأنى لمثل تلك السلطة أن تطمئن الناس وتستعيد ثقتهم بعد ما أحدثته من الفتك والدمار، أو تستقر وتدير وطناً واقتصاداً وسياسة بعد الشروخ العميقة التي أحدثتها في المجتمع، والأهم بعد أن أخضعت نفسها بصورة شبه كلية لإرادة الخارج الذي لولاه لما استمر وجودها؟
من المفيد التذكير بأن إحدى أهم سمات العقل السياسي الحاكم عدم اعترافه بالهزائم وتحبيذه، على رغم مرارة انكساراته، التغني بالانتصارات، فالسياسة عند أصحابه ليست واجباً ومسؤولية، بل تسلط ووصاية وامتيازات، والإقرار بالخطأ وبمواطن الضعف وبالعجز والفشل قد يهز هذه الأركان الثلاثة ويهدد استقرار السلطة القائمة، التي فاض تاريخها الطويل بطرائق التفنن في اختلاق الذرائع والحجج عن المؤامرات الخارجية كي تتنكر لإخفاقاتها وتتهرب من الاعتراف بهزائمها.
في الماضي حاول «مدعو الانتصارات» التستر على الخراب الذي أحدثته هزيمة 1967 وتحلية مرارتها بذريعة فشل العدوان الإسرائيلي في تحقيق هدفه المفترض برأيهم، وهو إسقاط النظامين الراديكاليين في سورية ومصر، واليوم، يتكرر المشهد ذاته في تمرير وتسويغ ما حصل ويحصل من دمار وقتل واعتقال وتشريد على أنه انتصار عظيم لنظام تمكن من هزيمة مؤامرة كونية كان غرضها إضعاف موقعه المقاوم أو كسر موقفه الممانع!
- نقلاً عن: الحياة اللندنية
عذراً التعليقات مغلقة