* علي سفر
قُتل قائد مليشيات الدفاع الوطني في محافظة القنيطرة، مجد حيمود. الخبر عادي جداً في سياق الحدث السوري، حيث يسقط القتلى على مدار الساعة من المدنيين، وكذلك من العسكريين الذين قرّروا، ومنذ بداية الثورة، الانحياز إما إلى الثائرين في الشوارع السورية أو إلى النظام وجيشه وأجهزته الأمنية.
لكن قصة حيمود تبدو مختلفة قليلاً عن سياقها، فهو يموت في غير المكان الذي اختاره في البداية، فبعد أن انشقّ والتحق بلواء (المعتصم) التابع للجيش الحر، في نهاية السنة الأولى للثورة، رجع بعد فترة عن خياره ذاك، وعاد إلى “حضن الوطن”، ثم أصبح قائداً لمليشيا الدفاع الوطني، ولتنتهي حياته على يد مجهولين، قبل أيام، فجّروا مقره في بلدة خان أرنبة، قيل فيما بعد إنهم ينتمون إلى “الجيش الحر”، وإن العملية جاءت رداً على اغتيال جمال عباس، نائب رئيس هيئة أركان فصيل “ألوية الفرقان”.
ظلت أسباب عودة حيمود إلى معسكر جيش النظام وقواته الرديفة عصيةً على فهم رفاقه في حمل السلاح، وربما كان من الممكن نسيانه وتجاوز قصته، لو كان رجوعه انسحاباً من دائرة الفعل كله، كأن يترك السلاح ويمارس حياة مدنية، ولكنه اختار أن يحمل السلاح مرة أخرى، وأن يغيّر اتجاه البندقية، موجهاً إياها صوب رفاق الأمس.
لقد خان قضيته، كان الجميع يتحدث عنه، سيما وأن النظام اعتبره حالةً نموذجيةً تدلل على نجاعة حل المصالحات الوطنية المحلية، وهو التكتيك الذي اتُبع لإخماد الثورة المسلحة في مناطق سورية كثيرة، مع تركيزٍ عالٍ على ريف دمشق، ليصير حيمود بطلاً إعلامياً يمكن تقديمه لوسائل الإعلام الغربية. وهكذا وجدناه يظهر في فيلم “داخل سورية الأسد” الذي أعده وأخرجه الصحافي الأميركي، مارتن سميث، ليتحدث عن حوارٍ عادي (سلام وكلام) جرى بينه وبين أحد ضباط النظام على الهاتف، تطوّر ليصبح محادثاتٍ صريحةٍ يتبادلان فيها الرأي، ويتقاسمان في ثناياها التعهدات والالتزامات، انتهت باتفاقٍ يضمن له عفواً رئاسياً خاصاً، مقابل أن يلقي مع مجموعته السلاح! ولكن الأحداث التي جرت لاحقاً في الواقع، وعلى الأرض، خارج الرواية الوردية المصوّرة في الفيلم الأميركي، أكدت أن حديث حيمود لم يكن سوى بروباغاندا مصاغة بدقة، لتناسب الكاميرا التلفزيونية أكثر من مناسبتها المنطق والعقل، فتفاصيل الحرب بين جيش النظام و”الجيش الحر”، وكذلك الفصائل الإسلامية المتطرّفة، تؤكد أن ما جرى يرجع في مجرياته إلى سياق الصراع، واختلاف المصالح الشخصية، والمراهنة على الجهة الأكثر فائدةً، مع توفرٍ غزيرٍ للذرائع؛ إذ يمكن القول إن الثورة التي خرج الناس من أجلها تمت سرقتها، ويمكن القول إن المعارضة السياسية في الخارج صارت عميلةً ومرتهنةً للجهات الإقليمية والدولية، ويمكن القول إن الثورة المسلحة التي مثّلها الجيش الحر صارت ثورة تنظيم القاعدة، جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وكذلك يمكن اختلاق ذرائع مناطقية ومحلية، لتبرير تغيير التحالفات، ونقل البندقية من كتفٍ إلى كتف! ولكن، في المقابل لم يتغيّر النظام صوب الأحسن، ليكون الحل هو العودة إليه والقتال إلى جانبه، بل صار أشدّ وحشيةً، كما تكرّس بوصفه الأسوأ تاريخياً في تعاطيه مع شعبه، فهو لم يترك وسيلةً لقتل الثائرين ضده إلا واستخدمها، مخلفاً وراءه حصيلةً دموية هائلة طوال السنوات السابقة.
يمكن التفكير بكل الاحتمالات التي تجعل شخصاً مثل مجد حيمود يتحول من ثائر إلى عميل للنظام، ضمن قراءة الوقائع، حيث يمكن، في السياق، التوقف عند سببٍ عام يقول إن الخيار الشخصي الذي جعله يراهن على انتصارٍ سريع ما للثورة، صار مشكوكاً في صوابيته، مع تبيان الكلفة العالية للثورة ذاتها. ولهذا، فإن العودة عنه، وعلى الرغم من أنها قد تترافق عادةً باتهامات بالخيانة وبالتشهير، تبقى الأكثر فائدةً للشخصية. وحين تتوفر فيها نوازع دموية تجعلها تعود إلى حمل السلاح، فإن الملامح التراجيدية الناتئة في صورتها ستتكشف عن أخرى مجبولةٍ بالانتهازية، وبالرخص، فهي تبيع كل شيء مقابل “حفنة من نحاس”. وفي سبيل أن تبقى متمتعةً بسلطتها التي تستقيها من حملها البندقية، حتى وإن كان رصاصها هو الرصاص ذاته الذي كاد أن يقتلها.
عدة أسماء عادت إلى التصالح مع النظام، يمكن التعاطي مع ما ذهبت إليه على أنه خيار شخصي، لا يمكن لأحد محاسبتها عليه، سوى من الزاوية الأخلاقية التي تجرّم العلاقة مع القتلة والسفاحين، ولكن هذا الخيار، وحين يحوّل الشخصية وبإرادتها، إلى مجرد أداة رخيصة بيد النظام، يمكن الاستغناء عنها في أي لحظة، لا يبقى مجرد خيار شخصي، بل يصبح انتحاراً، لا يمكن لك أن تتخيل صاحبه سوى جثة منتفخة، تنطق بما يريده منها قاتلها، وتفعل ما يخدمه ويؤبّد سلطته، وهذا ما يفعله هذه الأيام أولئك العائدون إلى حضن الأسد.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة