* غازي دحمان
تهيأت كل الظروف، واجتمعت الفرص والمصادفات في قالب غريب، لتوصل الجنرال “الفخري” قاسم سليماني إلى مرتبة الحاكم الفعلي لبلاد العراق والشام، أو كما يحلو للقوميين السوريين تسميتها “سوراقيا”.
لم تكن تخطر ببال الرجل هذه المآلات، وهو ما زال يعيش صدمة ما حصل، ويداري اندهاشه، حتى عن أقرب المقرّبين له، فلم يخطر بباله أكثر من كسب معارك هنا وهناك وبأثمانٍ عالية، ولم يطمح إلى غير بعض الحظوة لدى المرشد الأعلى، لتفانيه في أداء مهامه.
صحيح أن إيران كان لديها مشروع للسيطرة على المنطقة، وتصوّر واضح لهدمها، ثم الاستيلاء عليها، لكن ذلك كان مرهوناً بمدى زمني طويل، ربما لا تمثل مرحلة قيادة سليماني سوى جزء بسيط منه، وربما توقّع المرشد ومستشاروه أن تواجه المشروع مصاعب جمّة فيتم طيّه، بعد أن تكون إيران قد حقّقت مكاسب آنية. وفي الأثناء، لا بأس من التقاط صور هنا وهناك، ذكرى أيام جميلة.
لكن في طريقه إلى فتح طريق سيطرة إيران على المشرق، دخل ثوار سورية في حروب تصفيةٍ بين بعضهم، تناسوا عدوهم الأساسي (نظام الأسد)، ولم يتركوا فرصة للتقاتل فيما بينهم إلا واستثمروها، في الغوطة وحلب وإدلب. وفي كل معركةٍ، كانوا يمنحون سليماني وجيوشه فرصةً للتسلل إلى جبهاتهم، صنعوا له مئات الثغر والنوافذ ليعبرها مرتاحاً، ويسجل في كرّاسة يومياته المشرقية مزيداً من الانتصارات.
وفي الطريق أيضاً، تبدلت الأحوال العربية، وذهبت أكبر دولة عربية (مصر) إلى حد إعلان وقوفها التام مع نظام الأسد الذي لم يكن، في حينه، سوى عامل على ولاية الشام عند الوالي سليماني، فكان الانقلاب المصري ينعّم طريق سليماني إلى البر الشامي، ويعطيه شرعية مجانية. أما العرب الآخرون فلم ينسوا حصتهم في الصراعات الجانبية، ربما لتصبح خلفية صورة سليماني أكثر تعبيراً وصدقاً.
لم يتوقف الحظ في إهداء سليماني مزيداً من الفرص، حيث سيتصادف أن تصحو أحلام روسيا القديمة في الوصول إلى المياه الدافئة على يد سليماني الذي كان قد شدّ الرحال إليها ذات ليلةٍ، كانت فيها جيوشه تتهاوى في سورية، طالبا منها المسارعة في إنقاذه وإنقاذها، بالتزامن مع وجود إدارة أميركية لم تر في المشرق سوى اتفاقها النووي مع إيران، وما عداه من موت ودمار فلم يكن أكثر من حدث عادي في مسلسل صراعٍ بدأ منذ ألف وأربعمائة سنة.
المشكلة أن سليماني هذا نوع رديء من القيادات، وليست لديه مواصفات القادة الذين عرفهم التاريخ، واستطاعوا السيطرة على بلادٍ شاسعة بحجم العراق والشام، فلا هو بالقائد الاستراتيجي صاحب الحنكة والمهارة، ولا هو صاحب كاريزما وجاذبية، بل لديه “كراكتر” مثير للشفقة، إن لم يكن للضحك أيضاً. لديه فائض من أشخاصٍ رمى بهم الزمن (اللاجئون الأفغان)، أو أشخاص ماتت دولهم وانتزعت هوياتهم، وباتوا يبحثون عن رمز وقائد يتعلقون به، أو حتى ملجأ ولقمة عيش، ووراءه دولة وميزانيات مفتوحة، وليس من يحاسب ويراقب. مطلوب منه أهداف محددة: تفريغ طائفي، تدمير بيئات ومكونات، ويتحقق هذا في زمنٍ غير محدّد.
يجول قاسم سليماني، بضحكته الصفراوية الخبيثة، ويدوس على جروحنا، فيما نحن نجهّز له الطرقات. لديه خصوم رائعون أكثر من أصدقائه، على الرغم من تفاني هؤلاء في خدمته، إلا أن الفارق أن أتباعه مرغمون على السير وراءه، ربما لحاجتهم الماسّة لعطاءاته، وربما حتى لاعتقادهم أنهم يخوضون خلفه حرباً وجودية، في حين أن خصومه يخدمونه ترفاً، ومن باب العند بالشقيق. هنيئا له بهم.
لا يطرح الرجل على العرب سوى خيارات ضئيلة، إما أن تستسلموا لقدري أو تتفاهموا معي، والتفاهم يعني أنني من سيحدّد الشروط وأجندة المفاوضات. والغريب أن ثوار سورية وحكامها ونظراءهم العرب يعرفون مسبقاً مطالب سليماني التي ليست سوى إقرار بالاستسلام النهائي والتحضّر للسبي الكبير.
سليماني، هذا القائد بالمصادفة، على موعد مع خضوع المعابر والحدود والأرض والتحكّم بمفاصل المشرق ومصائره. الرجل الذي يجهز يساريون وقوميون عرائض مدائح له تليق بمكانته، وبصفته فاتحاً ومخلصاً وحاكماً بأمر الله، لم يبق بينه وبين تحقيق الوعد سوى بعض الثغر المتمردة هنا وهناك، بعد أن أنجز الجميع أدوارهم في المهمّة.
ولمن لا يعجبه الأمر، لا داعي للتفكير في شن حروب مضادة على قاسم سليماني وغيره، ما دامت حروبنا ليست سوى حفلات تعذيب لشعوبنا واستنزاف لطاقة أرواحنا. ثم إنه ليس من علامات الانتصار في الحروب أن نتقاتل مع بعضنا، وفي الوقت نفسه، نطمح إلى صد الأعداء عن حدودنا. هذا حملٌ أثقل من قدرتنا على حمله، خصوصا إذا كان جنود سليماني يقيمون بيننا ويردّدون، صباح مساء، أمة عربية واحدة.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة