* محمود الزيبق
«هل يعقل أن القوى الكبرى تصنع الجماعات الارهابية ثم تشكل تحالفات دولية لمحاربتها؟ « سأل ملياردير اللايكات فيصل القاسم على صفحته على فيسبوك. وعلى تنوع جمهور الصفحة ستسمع عليها عشرات الردود والآراء حول من صنع هذه التنظيمات.
تستند تلك الآراء رغم اختلافها وتباينها العريض في إجاباتها إلى شيء من المنطق والتحليل، الذي يعتمد على سلوك التنظيم تارة، وعلى المستفيد من ذلك السلوك تارة أخرى، وهنا ستسمع في الأجوبة إيران، ونظام الأسد، وروسيا، والولايات المتحدة، أو الغرب عموما وإسرائيل، سيحدثك البعض عن دور البعث العراقي، ويتهم آخرون السعودية أو تركيا أو قطر، فيما يميل آخرون إلى ربط الأمر بالتطرف الإسلامي، بل يتهم بعضهم الإسلام نفسه متابعة لصوت الكثير من أصوات اليمين في الغرب.
أما أنا فسأستند في إجابتي إلى خبرة شخصية أولا إذ قد أكون من الصحافيين القلة الذين أتيح لهم أن يشاهدوا مقاتلي هذه التنظيمات بالعين ويجروا معهم مقابلات صحافية، وأنا واحد من قلة أكثر ندرة ممن ابتسم لها الحظ بالبقاء حيا، بعد أن وقع في أسر مقاتلين من تنظيم «الدولة»، كذلك سأدعم تلك المعاينة الشخصية بقراءة في فكر تلك التنظيمات وشيء من منطق العرض والنقاش.
في أول الملاحظات على مقاتلي التنظيم، وقد شهدت بعيني عدة معارك لهم، الإقدام على الموت، وهذا لا يحتاج إلى كثير من الشرح، تكفي لتوضيحه عشرات العمليات الانتحارية، التي يقوم بها مقاتلو التنظيم، وفكرة الموت في حد ذاتها لا يمكن أن تربط بالعمالة والارتزاق، إذ أن المنطق يتنافى أن يقدم أحد روحه مقابل ثمن مهما كان هذا الثمن، إلا أن يكون ثمنا عقائديا مرتبطا بما بعد الموت.
لكن ما يحتاج للتوضيح هو ظن العامة خطأ أن هذا الاقبال على الموت هو لبسطاء التنظيم ودهمائه فحسب وهذا غير صحيح، وقد شاهدت بعيني أكبر قائد عسكري للتنظيم في سوريا وهو عمر الشيشاني، في الصف الأول للساعين للموت مع بقية عناصره، كما أن كثيرا من قادة التنظيم الكبار لقوا حتفهم، كما هو معلوم منهم أبو عمر البغدادي أمير الدولة الأول ووزيره الأول أبو حمزة المهاجر وأبو مصعب الزرقاوي وغيرهم كثير، ولعل هذا المصير يقترب الآن جدا من أبو بكر البغدادي.
بناء على هذا تعود نسبة الصناعة قطعا إلى ما يؤمن به التنظيم من عقيدة وأفكار إسلامية دون شك، لكن عامة المسلمين يرفضون الاعتراف بهذه المشكلة لقناعتهم أن «داعش» لا يشبه بحال من الأحوال الإسلام الذي نشأوا عليه وتعلموه وهذا صحيح من زاوية ما. إن ما يجهله عامة المسلمين هو أن لداعش ومنظريه وشيوخه وعناصره عالما إسلاميا آخر لم يطلع عليه معظم المسلمين، لا يعبأون فيه بشرح ما يستهجن على أذهان عامة البشر فهمه من دموية التنظيم أو أحكام قتل الردة والجلد والرجم وقطع الأيادي، فتلك حدود مسلمة حتى عند بقية المسلمين أنفسهم، وتعمل بها أو ببعضها بعض الدول الإسلامية.
يعيش مقاتلو التنظيم في عالم آخر فيه مثلا كتاب «زل حمار العلم في الطين» لأبي محمد المقدسي، الذي يتحدث فيه عن تكفير مفتي السعودية السابق الشيخ عبد العزيز بن باز. في عالمهم رسالة «مد الأيادي لبيعة البغدادي» لأبي همام الأثري و»بيعة الأمصار للإمام المختار» لأبي جعفر الحطاب التونسي وكتاب «موجبات الانضمام لدولة الإسلام» و»إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي و»الدولة النبوية» لوزير الحرب الأسبق أبي حمزة المهاجر و»إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام» لعثمان التميمي وعشرات الرسائل والنقاشات التي تبحث في وجوب البيعة، أو تعريف أهل الحل والعقد واستحباب الشورى لا وجوبها، وأحكام الماوردي السلطانية وتفريعات مجموع فتاوى ابن تيمية في مسائل التكفير، وما يعرف بتترس الكفار بالمدنيين، إلى غيرها من المسائل التي ترسم الخط الشرعي وتؤصل كل ما يقوم به التنظيم من جرائم، وتشرح مسائل كبرى، كموضوع أولوية قتال المسلمين، أو على الأصح من يوصفون بالمرتدين من موالي الكفار من الغرب أو الحكام والسلاطين، أو من المحتكمين إلى الديمقراطية وغير ما أنزل الله.
ولعل في هذا العالم إجابة على سؤال كبير هو «لماذا يقتل التنظيم المسلمين أكثر من غيرهم؟» ثمة سؤال آخر يطرح بشدة «لماذا لا يحارب التنظيم إيران وإسرائيل؟» والجواب عليه ببساطة أن السؤال أصلا غير صحيح فالتنظيم اشتبك مع إيران والفصائل التابعة لها في العراق وسوريا، وأثخن فيها قتلا كثيرا، أما عملياته الضئيلة في إسرائيل «وهي موجودة قطعا» فهي مرتبطة بإمكاناته لاختراق أمنها المحصن.
عودا على بدء نعم أريد تبرئة الجميع من صناعة التنظيم، فهو دون شك صناعة التطرف الذي نلمس بعض آثاره في مجتمعاتنا، وإن كان هذا لا يلغي أن يكون التنظيم استثمارا سهلا لكثير من الجهات الدولية، آلاف المقاتلين المتطرفين تسربوا من الغرب، حيث تحول الديمقراطية والحقوق دون محاسبتهم على أفكارهم أو اعتقالهم، بل إن القوانين هناك تفرض أن تقدم مساعدات لكثير من منظري التطرف الإسلامي وحمايتهم من تعذيب وسجن محتملين، في ما لو عادوا لدولهم العربية والإسلامية.
إن إخراج هؤلاء من بيروقراطية القوانين الغربية إلى ساحة مفتوحة يسهل فيها قصفهم وتصفيتهم هو مصلحة غربية دون شك، ولعل الكثيرين يتساءلون عن الأثر الغائب لعشرات الدول المشتركة في التحالف لقصف التنظيم، والجواب البسيط أن معظم تلك الدول معنية فقط بقصف المواقع التي تشير المعلومات الاستخباراتية إلى وجود عناصر من التنظيم يحملون جنسياتها، فيتحرك الطيران البلجيكي لقصف بلجيكيين والأسترالي للأستراليين وهكذا.
أذكر تماما خلال رحلاتي الصحافية العديدة إلى سوريا، عبر الحدود التركية، صور أولئك الذين لم يتكلفوا عناء حلق لحاهم حتى في الطائرات خلال مغادرتهم بلدانهم قدوما إلى سوريا. إن مجرد قيامهم بالحجز لتلك المناطق الحدودية مع سوريا، دليل على غض بصر ما عن حركتهم، إلا أن يكون للشيشانيين والاوزبك ومتطرفي أوروبا وليبيا مزارات للحج والسياحة في انطاكيا او غازي عينتاب لم نسمع عنها.
المصلحة الغربية في التخلص من ذلك الخطر المتمثل بهؤلاء من رحابة الديمقراطية إلى مكان يقتتل فيه من يصفهم الغرب «بالأشرار» لا تحتاج إلى كثير شرح، وعلى مثلها تقاس كثير من الاستثمارات في التنظيم ومواقيت عملياته ومساحات حركته، التي تنتهي لصالح هذا الطرف او ذاك.
باختصار سريع صُنع «داعش» من أفكار متطرفة في مجتمعاتنا، وان رفضنا لتشخيصها هو تأخير لعلاجها… وهو يمنح مساحة أكبر لسماسرة الأدوية الدوليين لاستثمار أكبر في جسدنا المريض.
- نقلاً عن: القدس العربي
عذراً التعليقات مغلقة