* ميشيل كيلو
كنا في مطالع حياتنا السياسية، عندما كانت تنقصنا المعرفة والخبرة، نصدّق ما يقال لنا عن الإصلاح نقيضاً للثورة التي كنا نعشقها، ونرى فيها أولوية يرتبط تحقيقها بإرادتنا وحدها، وليس بأي أمر خارجها، فهي فعل ذاتي صرف، من غير الجائز أن يساورنا الشك في فرص نجاحه، وكيف لا ينجح إن كنا نعيش له، ونضع وجودنا كله في خدمته.
كنا نكره الإصلاح لثقتنا بأنه لا يمكن أن يكون غير محاولة بورجوازية، وتاليا رجعية، لإجهاض ثورتنا الوشيكة التي يستقتل “عدونا الطبقي/ السياسي” إلى قطع طريقها وزعزعة اقتناعنا بحتمية انتصارها، بدعوته إلى إصلاحٍ هو بالتأكيد شر مطلق، ما دام هدفه إنقاذ ما لا يمكن ولا يجوز إنقاذه: نظامنا الظالم والمريض، المرفوض من شعبٍ يرغب بقوة في الثورة، ويبدي استعداده الدائم لدفع ثمنها من دمائه. لذلك، من الخيانة لأنفسنا وللثورة قبول إصلاحٍ يقطع الطريق عليها، مع أنها هدف أية سياسة تستحق اسمها.
ما أن أحكم النظام الأسدي قبضته على سورية وأحزابها ومواطنيها، وأخضع شعبها لأشد أنواع التعذيب والاضطهاد، وجارَتْه بعض أحزاب المعارضة في اعتبار كارثة الثامن من آذار ثورة، حتى تبدّلت هذه المعادلة، وأدركنا أن الثورة لم تعد، كما كنا نتوهم، في متناول أيدينا، وأننا نفتقر إلى القدرة على تنفيذها. لذلك، لم تعد بديلا حتميا للأمر القائم، على الرغم من أنه كان يزداد فسادا، ويمعن في إضعاف (وسحق) التنظيمات والتيارات المطالبة بالحرية، وكنا نظن أن الثورة ستضع السلطة بين يديها، فبيّنت الوقائع خطأ هذا التصور، وأنشأت معادلة سياسية جديدة، حدها الأول النظام والثاني الإصلاح الذي لم يعد شرا مطلقا في أعيننا، بل وملنا إلى الاعتراف بأنه يمكن أن يمهد، في ظروفٍ معينة، لإنضاج تدرّجي للثورة ضد نظام عسكري استولى على السلطة عام 1963، وتطيّف بعد عام 1970، مع انقلاب حافظ الأسد على رفاقه. كما أدركنا، فضلا عما سبق، أن أعداء الثورة ليسوا بالضرورة إصلاحيين أو أنصاراً للإصلاح، ويمكن أن يكونوا ضد الإصلاح والداعين إليه. بهذا الفهم، الجديد، انقلب الإصلاح من نقيض رجعي للثورة إلى أداة ضد الاستبداد والفساد “الثوريين”، ومدخل إلى بيئة سياسية مجتمعية ثائرة، وانفصل مبدأ وواقعاً عن أحكامنا المسبقة، وغدا أكثر فأكثر هدفا مرحليا لا بديل له، حتى أن أستاذنا الراحل إلياس مرقص قال، وهو يتأمل ما آلت إليه أوضاع سورية، “إن إصلاحها سيكون أكبر من ثورة”، بما أن الإصلاح وحده سيخرجها من حال البربرية التي ركبتها، ويردّها إلى وضعٍ شبيه بما كانت عليه قبل عام 1963 من حال شبه مدنية.
وزاد اقتناعنا بالإصلاح أن العسكر الطائفي قام بكل ما هو ضروري من إفقار ونهب وإفساد وقمع وتجهيل، كي يكبت مطلب الإصلاح في صفوفه أيضا، ويحول دون فعل إصلاحي شامل، وإن رمم أوضاعه، خشية أن تفلت أدواره من يديه، ويقوض وحدته، ويقوده إلى نظام يحمل بديله في أحشائه. في المقابل، وضعت الأسدية مزق الشعب وتجمعاته ونخبه أمام خيار إجباري، هو الرضوخ للأمر القائم، أو التخلي عن المطالبة بالإصلاح التي كانت تضمر في برنامجها احتمال تغيير جوانب منه، والتخلي عن عديد من آليات إعادة إنتاجه. في هذا المفترق المفصلي، أدركنا أن الإصلاح لم يكن يوما رجعيا بالضرورة، وأنه كان، في الشرط السوري القائم، الخطر الوحيد على العسكر الذي يمكنه إضعاف مواقعه وتقويض تماسكه الأيديولوجي واختراق نواته السياسية والأمنية الصلبة، وتعبئة قطاعات مجتمعية واسعة وفاعلة ضده.
بسبب استحالتين، فرضهما ظرف مأزقي ومأزوم إلى أبعد حد: القيام بثورةٍ من جهة، والسكوت عن الأمر القائم من جهة أخرى، بلورت “لجان إحياء المجتمع المدني” في سورية برنامجا إصلاحيا واقعيا، كان في نظرها الإمكانية الوحيدة المتاحة لتغيير الظروف التي أنتجت موازين قوى لمصلحة النظام، ورضوخ الشعب للسلطة، وتخلت عن وهم جعل من الثورة أولوية وحيدة للأمر القائم، يمكن بلوغها من دون تدرّجات وتوسطات، بسحبة أو بضربة واحدة: بما هي تحول كيفي ينتج عن تراكمات كمية.
قرّرت اللجان العمل لإصلاح يحقق تدرجاً ما كان يطلب سابقا من ثورة مستحيلة، لطالما عطلتها قدرة النظام على تقطيع التراكمات الكمية والتلاعب بها، والتحكّم في طابعها وتعاقبها، بحيث يحول دون حدوث تراكم كمي ينقلب إلى تحول نوعي، أي ثوري. جعل النظام التراكم يدور في حلقةٍ مفرغةٍ، تتخابط الأحداث فيها وتتشابك، من دون أن تبارحها، اتخذت حركتها داخلها مسارا دورانيا انحداري التوجه، احتجز القفزة الثورية، وأحدث انهيارا متدرّجا وثابتا في الحياة العامة وأوضاع الأحزاب، وحفز نمو السلطوية التي احتكرت المجال العام أكثر فأكثر، وضبطت أنشطة الفاعلين فيه بالقمع الجسدي والأيديولوجي، وبسيطرتها على التعليم، والإعلام، وعالمي العمل ورأس المال، وتوزيع الدخل الوطني، والردع الانتقائي أو الدائم، المباشر وغير المباشر للمواطنين.. إلخ.
بإدراك النظام أن لا خطر عليه من الثورة، وأن الإصلاح يستجيب للحاجة إلى تغيير إن استجاب له طاول هيكله السياسي والتنظيمي وسياساته وتحالفاته المجتمعية، وأفضى إلى تخلق مركز سياسي داخلي إلى جانبه، وأفسح المجال لزعزعة جوانب من أوضاعه، وإرخاء قبضته عن عنق الشعب، والإخلال بتوازناته. لذلك رفضه جملة وتفصيلا، خصوصا أن اللجان كانت قد صاغت برنامجا للتغيير يمر في مراحل ثلاث:
أولى يجب دفع النظام إلى أن يتخلى خلالها عن آليات عمل وإدارة يعتمدها، ويستبدلها بآلياتٍ من خارج منظومته الأيديولوجية، لتساعده على تخطي نقاط ضعف وتكسبه دينامية يفتقد إليها، يعني غيابها تخلق أزماته وعجزه عن إدارة شؤونه بالطرق التي تضمن استمرار خضوع الشعب له.
ثانية يتبين خلالها أن ما استعاده لم يكن كافيا لحل مشكلاته، الكامنة في جمود أيديولوجيته التي تحتجز قدرته على الاستجابة للتحديات التي يطرحها الواقع عليه. لذلك، غدا من الملحّ التخلي عن بعض مكوناتها واستبدالها بعناصر أيديولوجية لا تنتمي إلى نظامه، لكنها يمكن أن تجدّده بتطعيمه بعناصر خارجة عن بيئته الخاصة.
ثالثة يدرك خلالها أن محاولات إصلاحه الجزئية لم ولن تحسن أوضاعه، بل تربكه وتضيف مشكلاتٍ جديدة إلى مشكلاته المعقدة، ينتجها تعارض واقعه المتحول مع أيديولوجيته الجامدة، التي لم يبق لديه من خيار غير التخلي عنها، وإلا فعن إصلاحاته التي تمت بوحيها، بتخليه عن منظومته الأيديولوجية، يخرج النظام من إهابه القديم ويدخل في بديله الذي لا يمت إليه بصلة عضوية.
وكانت اللجان تركّز على دفع النظام إلى القيام بالخطوة الأولى من المرحلة الأولى. وبما أنه لم يفعل، فإنه لم يبق لها غير استخدام مطلب الإصلاح للضغط عليه، عبر إقناع الشعب به، وتعبئة قوى مجتمعية متزايدة الحجم. أضعف هذا التكتيك المزدوج شرعية النظام وأربكه، وقلص صدقيته لدى قطاعاتٍ متعاظمة من السوريات والسوريين.
كان الإصلاح مطلبنا، وبعد دراسة مجتمعية معمقة، ربطناه بحراك الفئات البينية المستنيرة من الطبقة الوسطى، وجعلنا مشروعه الوحيد حرية المواطن السوري في ظل العدالة الاجتماعية وحكم القانون. بذلك، بدا ما نطالب به وكأنه أكثر من إصلاح و”أكبر من ثورة”، ونزعنا عنه طابعه التحقيري السابق، وجعلناه التوسط السياسي الفاعل بيننا وبين التغيير: هدفنا الوقتي، الذي علمتنا تجربتنا أن زعزعة النظام بين احتمالاته، وأنه يتيح لنا قدرا من الأمان يمكننا من العمل بما لدينا من مؤونة فكرية/ معرفية وتنسيق رفاقي، وخطط وبرامج تجلب لنا دعما وطنيا ومجتمعيا واسعا، بدأ يعبر عنه تشكل ضم قوى مجتمعية مستقبلية التوجهات.
بذلك، اعتمدنا الإصلاح مبدأ ونهجاً، وحولناه إلى سلاح نضالي، دافعنا بواسطته عن أنفسنا وشعبنا، ضد نظام تداعت سورية على يديه ثورياً، قبل أن يدمرها عسكرياً. أما القفزة، فأعتقد أن فكرتها لعبت دوراً مهماً في عجز الثورة عن رؤية مهامها الحقيقية، وفي تعثّرها.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة