* ميشيل كيلو
بانتخاب الأستاذ رياض سيف وفريقه لقيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، تدخل إدارة القضية الوطنية السورية بواسطة الائتلاف في لحظة مفصلية حاسمة، فإما أن تحوله قيادته الجديدة إلى مؤسّسة قادرة على إنتاج عمل وطني وقيادة ثورية/ إنقاذيةٍ لشعبٍ يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو أن يوصله عجزه إلى مثواه الأخير غير مأسوفٍ عليه، تاركا مكانه للفوضى، أو لمبادراتٍ يرجّح أن تفضي إلى مؤسساتٍ متنوعةٍ أو بديلة، إن اتحدت. وهذا مستبعدٌ جدا، انفردت بالساحة، كما كان ينفرد الائتلاف الحالي، من دون أن تنال ثقة الشعب السوري، لأنها ستكون مفروضة عليهم مثله، علما أن مهمته الرئيسة كانت طيلة القسم الأكبر من سنوات وجوده، وخصوصا منها السنوات الثلاث الأخيرة، منع تخلق قيادة ثورية للشعب، تحل محله، بحجة أنه الممثل الشرعي لشعب سورية، على الرغم من أن شرعيته كانت وبقيت خارجية، ولم تغدو يوما شرعية داخلية/ وطنية، تقوم على إدارة القضية السورية بالنجاح المطلوب لانتصارها، بل تآكلت حتى غدا تآكلها تاما على وجه التقريب، في ظل عجز قياداته المتعاقبة عن أداء المهام التي تنجزها عادة قيادة ثورية للشعب والوطن.
ليست مهمة رياض سيف وفريقه سهلة، وليست، في الوقت نفسه، مستحيلة. وليس رفض الشعب الائتلاف حقيقة نهائية، لا يمكن التعامل معها وتغييرها، بل إن الفراغ الذي يسود الساحة السياسية يمكن أن يكون عاملا يساعد قيادة الائتلاف على إخراجه من عنق الزجاجة الحالي، في ظل عدم تخلق بديل له خلال سنوات الثورة الماضية، ودور الفراغ القيادي في تحريض حاجة الثورة إلى قيادة، يرجّح أن يدفع العمل الجدّي والصادق إلى إيجادها بقطاعاتٍ شعبية واسعة للالتفاف حولها، في حال بادرت حقا إلى معالجة الأسباب التي عزلت الائتلاف عن السوريات والسوريين، وأولها تناقض بنيته وآليات عمله وسياساته، مع ما تحتاج إليه ثورة لم تستمر بفضله، بل بقوة ما قدمه الشعب من تضحيات، وعاناه من تنكيلٍ وتهجير وقتل، بينما تصرف الائتلاف خلال سنوات الحسم، كما تتصرّف جهة تستمتع بمشاهد الموت، ولا تكترث لما يجري، لم تستطع يوما تغطية القضايا الرئيسة ومعالجتها، وهي القضايا التي أثارتها الثورة، أو طرحتها على نفسها وعلى الائتلاف الذي بدا كأنه تعمد أن ينأى بنفسه عنها.
أعتقد أن الخطوة الأولى التي لا بد أن تبدأ رئاسة الائتلاف بها وضع خطط وبرامج لا بد أن تكون لها الأولوية على أي شيء عداها، ما دام سيتم في ضوئها تطوير بنية وآليات عمل وسياسات الائتلاف وتغييرها، وتحديد مراكز ثقل العمل الوطني الديمقراطي، والجهة التي سيستند إليها، وسيستمد وجوده وقواه منها، وهل هي الخارج الذي لطالما انتظر المجلس الوطني والائتلاف قيامه بما توهما أنه سينجزه: إسقاط النظام وتسليم السلطة لأحدهما، أم الداخل، الذي لطالما أهملاه واستهانا بدوره، على الرغم من أن الثورة لم تستمر بفضل أعمالهما وخططهما ومؤهلات قياداتهما، بل لسببٍ وحيد، هو التضحيات التي بذلها الشعب، من دون أن تكون لديه قيادة تستحق اسمها، إلا إذا اعتبرنا شطّار (وعيّاري) معظم الفرق السياسية العاجزة والمتصارعة والتنظيمات المسلحة المتقاتلة، المحكومة بعشوائية ومزاجية أمراء حرب وتجار دم، قيادةً ثورية، وتجاهلنا رغبة هؤلاء في ردّنا إلى العصر الحجري باسم الدين، وما أملته نصرته المزعومة من عسكرةٍ لم توفّر أحدا، ألغت السياسة، وأبسط التدابير والأفكار العقلانية، وأبطلت أي دور لحامل الثورة الحقيقي: شعب سورية الذي لم يقصّر أنصارها في البطش به، وفي إطالة عمر نظام الظلم الأسدي.
أما الخطوة الثانية، فلا بد أن تكون إعادة النظر في علاقات الائتلاف مع مختلف فئات الشعب، في كل مكان توجد فيه، وإلا فإنه لن يكون هناك أي معنىً للمطالبة بتطبيق خطط وبرامج عملية على واقع الشعب السوري وثورته في وضعهما الحالي الذي صاغته سنواتٌ من تضحيات الناس، وافتقار من تصدّوا لقيادة العمل السياسي والعسكري إلى عملٍ ثوريٍّ مبرمج ومنظم، ساده الانقسام، وهيمنت عليه خلافاتها ورهاناتها المتناقضة التي أتبعتها بجهاتٍ خارجيةٍ متضاربة الإرادات، ومنحت النظام هوامش عمل واسعة، لعبت دورا مهما في نجاته. أليس من المنطقي أن يطالب الائتلاف مختلف أوساط المعارضة والثورة بالموافقة على برنامجه وخططه، في مقابل منحها دورا وازنا في أعماله وقراراته، تمهيدا لتوحيد النخب والفئات المجتمعية التي تنتمي إليها، ولا بد من الإفادة من علاقاتها ووطنيتها في بناء علاقات وطيدة وفاعلة وتبادلية مع القاع المجتمعي السوري في جميع أماكن وجوده، داخل سورية وخارجها، في إطارٍ يجعل من قيادة الائتلاف قيادةً للشعب وتنظيماته، على أن تتم الاستعانة بعلاقاته مع المجتمع السوري، في الضغط من أجل دمج المجالين، السياسي والعسكري، المعادة هيكلتهما، تحت قيادة وطنية الهوية والدور، تقدم أنموذجا من العمل العام، يتفوق ثوريا وأخلاقيا ومدنيا على أنموذج النظام، الأمر الذي يحتم القضاء التام على ممارسات أي طرفٍ تشبه ممارسات النظام، إنقاذا لأخلاقيات الثورة وقيمها.
هل ستستقيم الأمور من دون علاقات مصارحة شفافة وتفاعلية إلى أبعد حد مع السوريين، إناثا وذكورا، تتبناها قيادة الائتلاف، وتعبر من خلالها عن إيمانها بأن الشعب السوري، أي الداخل، هو مرجعيتها ومصدر شرعيتها، وأنها تلتزم بالعودة إليه في كل أمر، من خلال تقنيات عمل وتواصل سياسية، تتفق والمستجدات التي أنتجها الشعب، بفضل حراكه الثوري/ السلمي، وصموده الأسطوري ضد إرهاب الأسدية والغزو الروسي والإيراني، فلا تعمل بالخفاء عن ممثليه وجماهيره، وتتفاعل بأعلى درجةٍ من الإيجابية مع أنشطته المتباينة، وتتعاون معه في الرد على ما يطرحه الصراع مع الأعداء من أسئلة، ومن تحديات ومخاطر، بحيث يكون الائتلاف حاضرا معه في حله وترحاله، وينخرط عبر مؤسساته في حياته اليومية، ويقيم حوارا دائما ومفتوحا معه، بصفته السلطة البديلة المسؤولة عنه، التي تقود صراعه ضد السلطة الأسدية، وتعبر عن مواقفه ومصالحه، وتعمل بنزاهة لخدمته، مباشرةً أو عبر ممثلين له، يعملون في أماكن وجوده وعيشه، أو أدواته التنفيذية، وخصوصا منها حكومته المؤقتة، ومنظمات المجتمع المدني التي تخدم السوريين. هل من الضروري لفت نظر رئيس الائتلاف إلى أنه لا يمثل من انتخبوه في هيئته العامة، بل يمثل السوريين جميعا، وإن عليه التصرّف، بدلالة دوره هذا ومتطلباته؟
هل ستتمكن قيادة الائتلاف الجديدة من وضع هذا البرنامج وتنفيذه؟ أعتقد أنها تستطيع الإفادة من قدرات السوريين الهائلة، وخبراتهم الكبيرة في شتى المجالات، لوضع خطط وبرامج تنفيذية وطنية الطابع، تعتمد ممارساتٍ يتطلبها تطبيقه بنجاح، فإن دعت إلى لقاء وطني وأدارته كلقاء عمل، وكان تمثيله معبّرا عن القوى السورية الفاعلة التي يدعوها إلى الانخراط في مؤسساتٍ مشتركة، تمثل قطاعات من الشعب، وتعينه على تحقيق مشاريعه، وتوطيد علاقاته مع الشعب، يصير إنجاز هذا البرنامج مرجحا، مهما كانت الصعوبات.
يتركّز دور الائتلاف اليوم على العجز عن قيادة الثورة، ومنع تخلق بديل له، يتولى هذه القيادة. هذا الحال لن يدوم.
أخيرا، كنت قد قدّمت شخصيا أوراقا متعدّدة لإصلاح بنيوي للعمل الوطني وللائتلاف، أنصح قيادته الجديدة بإلقاء نظرة عليها، فربما وجدت فيها ما يفيد مشروعها الذي أعلنه رئيسها رياض سيف، ويتقاطع، في بعض فقراته التقنية، مع ما جاء فيها.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة