* عمر قدور
نشر نشطاء أكراد، موالون بغالبيتهم لحزب الاتحاد الديموقراطي PYD، وسماً “هاشتاغ” على وسائل التواصل الاجتماعي يدعو إلى فرض حظر جوي على مناطق سيطرة الحزب في سوريا. الوسم انتشر بكثافة خلال الأيام الأخيرة، وبعض من هؤلاء أرفقه للتوضيح بخريطة “روجافا”، التسمية التي كان أطلقها الحزب على الشمال السوري قبل تخليه عنها، والخريطة تتضمن الشمال السوري كله، بمناطق يقول الأكراد منذ عقود أنها ذات غالبية كردية، وأخرى تتم المطالبة بها الآن ضمن منطق الاستقواء بالنظام وحلفائه تارة، وبالدعم الأميركي تارة أخرى.
ليست المرة الأولى في الصراع السوري الحالي التي يعمد فيها نشطاء أكراد إلى مطابقة تطلعاتهم وأحلامهم مع ما تسيطر عليه الميليشيات الكردية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى اختراع حيثيات تاريخية موغلة في القدم من نوع اعتبار الحثّيين أكراداً، وبناء على ذلك اعتبار كل الأراضي التي حكمتها المملكة الحثّية يوماً عائدة لأكراد اليوم. لكن إذا بقينا عند التطلع الموضوع قيد التنفيذ، وهو السيطرة على الشمال السوري كله، يمكن القول بأن الأمر يتعدى منطق القوة السائد اليوم إلى استغلال المظلومية الكردية إعلامياً للحصول على كيان كردي يعتدي على حقوق سوريين آخرين، ويكرس وضعاً مستداماً على حسابها.
كما هو معلوم يتواجد الأكراد في أربع دول، هي تركيا والعراق وسوريا وإيران، ولا يمكن الزعم بوجود قضية كردية واحدة، فقيادات إقليم كردستان العراق معنية بوضع الإقليم وأفق استقلاله النهائي، بينما يركز حزب العمال جهوده في محاربة الحكومة التركية. الحزب يصمت نهائياً عن القضية الكردية في إيران، وأغلب الظن أن هذا لصالح القضية الكردية في إيران، بينما لم يقصّر سابقاً في زج أكراد سوريا ضمن حربه التركية، ولم يقصر منذ بداية الثورة في زجهم في عداء مع العرب الثائرين على النظام، وفي خدمة المحور الإيراني في المنطقة، حيث يُعرف على نطاق واسع دور قيادات الحزب التركية في جبال قنديل في توجيه سياسة ومعركة الحزب السورية، مثلما تُعرف علاقاتها التقليدية بنظامي الملالي والأسد.
خارج أوساط الحزب نفسه، لا نفتقر إلى متذاكين “أكراداً أو غير أكراد” يقولون بأحقية استغلال الأكراد الصراع السوري الحالي لصالح قضيتهم، بصرف النظر عن الدخول في تحالفات قذرة. ولا نعدم بالطبع من يخلط “عن جهل أو تذاكٍ” بين المظلومية الكردية التي تتطلب حلاً عادلاً، لا حلاً يخلق مظلومية أخرى، وبين حزب يسيطر عسكرياً بحكم دعمه من النظام وصولاً إلى أمريكا، دون أدنى التفات إلى ما يقوم به من عمليات تعدٍّ على أبناء مناطق سيطرته، لم يسلم منها حتى أكراد يعارضون توجهاته. ثمة من يقول “من خارج الوسط الكردي أيضاً” بأن الحزب يحظى بتأييد غالبية الأكراد، وليس من حق أحد أن يفرض عليهم ما يريد. لكن هؤلاء أيضاً يبيحون لأنفسهم على سبيل المثال انتقاد زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن، ويرون في أي انتقاد سوري لحزب الاتحاد الديموقراطي نوعاً من العنصرية العروبية ضد الأكراد، دون أن يكلفوا خاطرهم عناء الاطلاع على دقائق الشأن الكردي في سوريا، أو الاطلاع على أيديولوجيا الحزب نفسه كما خطها أوجلان، والتي لا تزيد عن كونها خلطة بائسة من القومية الاشتراكية “النازية” والماركسية المشرقية “الستالينية”.
على الأرجح لا يريد أولئك الذين لا يفرقون بين المظلومية الكردية وحزب PYD “الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني” أن يروا التصفيات التي عمد إليها الحزب منذ بداياته في حق “رفاق” مخالفين في الرأي، ولا يريدون رؤية تصفيات عمد إليها في حق من قرروا مغادرة الحزب. لا يريد هؤلاء أيضاً رؤية عمليات الاغتيال، أو محاولات الاغتيال، التي عمد إليها PYD في سوريا بعد اعتماد الاسم الجديد عام 2003، بالطبع دون الاعتذار عن عمليات مشابهة سابقة تحت الاسم القديم، ولا رؤية قمع الحزب مظاهرات كردية مناوئة للنظام بالرصاص الحي، أو مظاهرات كردية مناوئة لنهجه أو لقيامه بحملات التجنيد الإجباري وتسببها في عمليات نزوح واسعة… إلى ما هنالك من نهج فاشي.
لقد رأينا، ونرى يومياً، ما تعنيه المظلومية الشيعية وهي تسترد “حقوقها التاريخية” بقتل السوريين، وينبغي أن يكون هذا حافزاً لاتخاذ موقف فكري أكثر حذراً من كافة ادعاءات المظلومية في المنطقة. فالعبرة ليست فقط في وقوع الظلم سابقاً، هي أيضاً في تصور المظلوم لحقوقه وكيفية استرجاعها على نحو عادل. من دون امتلاك هذا المستوى الفكري والأخلاقي يبقى التعاطف مع المظلوميات أسير عدالة سابقة مفتقدة، لا عدالة مطلوبة اليوم، وغالباً يقع في الفخ الثأري للمظلومية.
يحوز القول “بلا رحمة” أن القضية الكردية في سوريا أسيرة دجل كردي أولاً، بمعنى عدم وجود رغبة كردية في بنائها والنضال من أجلها. المظلومية الكردية العامة تضع القضية ضمن إطار إقليمي، ما يستتبع لحلها تغييرات واسعة ضمن الإقليم كله، وهذا ما يرهن الحل في سوريا بالحل في تركيا خاصة. مشكلة حزب العمال الكردستاني أنه فعلياً يخوض حرباً مترابطة بين سوريا وتركيا، وسبق للحزب أن ضحى بدماء آلاف من الشابات والشباب الكرد السوريين في معاركه جنوب شرق تركيا، في الوقت الذي كان يعلن فيه عدم وجود قضية كردية في سوريا، بل يعتبر نسبة كبيرة من أكراد سوريا نازحين من تركيا. وإذا أخذنا سلوك الحزب السابق، حيث تشير التقديرات إلى تطويع ما بين 10 آلاف و15 ألف كردي سوري بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي للقتال في تركيا، فهذا وحده يدلل على رؤية الحزب للقضية الكردية، وهو رقم لا يُقارن على سبيل المثال بمتحمسين سوريين أفراد تطوعوا للقتال مع منظمات فلسطينية، أو ذهبوا إلى العراق للقتال عام 2003، لا يُقارن بسبب ضخامة العدد في الحالة الكردية، ولأن هذا الرقم حصيلة جهد حزبي وأيديولوجي منظمين لا جراء حماس فردي. الآن، الحزب نفسه يخوض حرباً مع تركيا على الأراضي التركية والسورية وأحياناً ضمن إقليم كردستان العراق، ما يحتم على أكراد سوريا إما اعتبار حرب هذا الحزب حربهم القومية الشاملة، والقبول تالياً بالأمر الواقع الذي يتعين أحياناً بقصف تركي لمناطقهم في سوريا، أو القول بوجود قضية كردية متمايزة في سوريا، والدعوة إلى تحييدها عن تصفية حسابات نظيرتها في تركيا. وفي كل الأحوال يجدر الانتباه إلى أن باقي السوريين غير مسؤولين عن مجريات هذه الحرب، وليس أخلاقياً تحميلهم تداعياتها العسكرية والسياسية، أو تداعيات فشلها بالسيطرة على الشمال السوري كله لتأمين تواصل بين مناطق تواجد كردي في سوريا يُفترض أن يتم تواصلها أصلاً من خلال كردستان تركيا.
أما في حال الفصل بين القضيتين الكرديتين في تركيا وسوريا فمن المهم بناء القضية الكردية السورية على نحو واضح أيضاً. هنا تنبغي أن توضع على المحك كافة الادعاءات والادعاءات المقابلة حول الغلبة السكانية، منطق القوة أو الاستقواء لن يحلها، والحل الذي يجدر بالجميع اعتماده هو اللجوء إلى استفتاء أهالي المناطق المعنية، ولتكن المطالبة بتنظيمه تحت إشراف دولي توخياً للعدالة، طبعاً مع عدم الاعتراف بعمليات التغيير الديموغرافي المنهجية الحالية والسابقة. حتى إذا استقر الرأي على المطالبة بتعديل الحدود الإدارية المعمول بها سابقاً فليكن ذلك واضحاً، من أجل رسم حدود القضية الكردية، وعدم تركها مطاطة وفق الدجل الفكري السائد.
لكي تكون هناك قضية كردية، لا مظلومية بالمعنى السلبي الحالي، من المفيد وجود إطار جغرافي ومطالب واضحة يتعاطف الآخرون معها أو لا يفعلون. من أجل بناء هذه القضية يلزم التخلي عن التقية السياسية المرافقة للدجل ولرغبات الثأر اللامحدودة، إذ لا يعيب الأكراد على سبيل المثال المطالبة بالانفصال، ولا يعيبهم المطالبة بحكم ذاتي. ما يشكل وصمة لأية مظلومية هي ممارسةأسوأ ما في متخيَّلها عن ظالميها، هذا مع تناسينا مفارقة تحالف الميليشيات الكردية الحالي مع نظام ظلم الأكراد مدة عقود، وإشهارها العداء المطلق إزاء مظلوميه الآخرين من السوريين.
- نقلاً عن: المدن
عذراً التعليقات مغلقة