* أمجد ناصر
وسط نقاشنا عن الأحوال العربية اليوم صدح صديقي قائلاً “هناك مؤامرة ضدنا كمسلمين”. الصديق الذي خرجت هذه النغمة عن “تون” كلامه فلسطيني/ أردني/ مناضل في الثورة الفلسطينية، ويرى أن لا سبيل لانتصار القضية إلا بعمقها العربي، خصوصاً السوري الكبير. أدهشتني هذه النغمة التي رأيتها غريبةً عما اعتدته منه. طلبت من صديقي، الذي ظن أنه قال جملة عادية مسلَّماً بها، أن نقف عند تلك الجملة. قلت له لاحظ، يا صديقي، أنك اختصرتنا (وملايين غيرنا) بهويةٍ واحدة، حاسمة: الدين. دعنا نرى طبقات نسبنا القُطْري والقومي والإنساني والثقافي والمزاجي التي تشكل، إلى الدين أو الطائفة داخل الدين الواحد، هويتنا الكلية:
بسطت له التالي: أنت فلسطيني الأصل/ هذه هوية أولى. من فلسطين المحتلة عام 1948/ وهذه هوية ثانية. أردني الجنسية والعيش/ وهذه هوية ثالثة. ذَكَر/ وهذه هوية ثالثة. وطني فلسطيني على شيء من اليسارية، وشيء من القومية العربية/ وهذه هوية رابعة. مسلم/ أو صرت ترى نفسك مسلماً (كهوية لا كممارسة، لأنك لا تنهض بفروض الدين)/ وهذه هوية خامسة. إنسان/ هذه هوية سادسة (التي يجدر أن تكون الأولى والوحيدة في عالم مثالي).
كان يمكن أن أسرد لصديقي، الذي فوجئ بوقفتي أمام جملة ظنها عابرة، سلاسل أصغر من الهويات/ أو العناصر التي تشكل الهوية الكلية للبشر، منها الجهة/ اللهجة/ الدايت: لحومي/ نباتي/ بيئوي إلخ إلخ.
لهذا الكلام عن الهويات سببٌ مباشر، هو مقال الكاتبة السورية سوسن جميل حسن في “ضفة ثالثة” الذي استفزَّ مثقفين سوريين عديدين، وأيده مثقفون سوريون عديدون، فنحن نعيش لحظة انقسامٍ مجتمعيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ سوريٍّ فادحة، يبرّر عنفها اللفظي، أحياناً، الجرائم، غير المسبوقة في تاريخ حروب المنطقة التي ارتكبها النظام السوري الذي يصنّفه بعضهم طائفياً، ويصنّفه بعضٌ آخر طبقياً وسياسياً، بعيداً عن الدين والطائفية. لا سبيل إلى الإنكار أن السوريين ليسوا على قلب رجل واحد. وهذا ليس كلاماً في الطائفية والعرقية وما شابه، بل صار كلاما في السياسة، بعدما تم إفشال الثورة السلمية، وليدة القهر والطغيان والفساد والإفقار الذي أنتجته النظم العسكرية السورية (وليس البعثية، لأن حزب البعث لم يكن سوى قناع للتسلط) على مدار ستة عقود مُرّة. وبما أنه لا سبيل إلى الإجماع حتى لون الدم المراق (رغم حمرته القانية)، يتوجب علينا أن نتكلم. نحن لسنا في الميدان، ولن نكون في ميدانٍ ليس لنا فيه قوة تنطق باسمنا.
استفزَّ بعض المثقفين السوريين قول سوسن حسن إن الثورة (من دون أقواس، لأن مشروع الثورة وشرعيتها لا تحدّدهما، أو تختصرهما، قوى مسلحة تمارس الجريمة السياسية بقدر ما تتيحه لها قدرتها) انتهت لتكون قوى مسلحة لا تختلف في طبيعة ممارساتها عن النظام. ربما هذا أقل استفزازاً من الكلام عن “الكوامن” الطائفية لقسمٍ من المثقفين السوريين الذين أيّدوا الثورة، من دون أن تفترض الأمر نفسه عند من أيّدوا النظام. هذا فهمٌ مستفزّ طبعاً. ولكني لم أفهم الأمر على هذا النحو، فضلاً عن أن الصراع في سورية، وعلى سورية، لا يضرب أصله وفصله، حسب رأيي، في جذرٍ طائفيٍّ كامنٍ أو ظاهر. لم تكن المشكلة السورية طائفيةً بقدر ما كانت في الاستبداد الذي أمسك بخناقها نحو نصف قرن، وأعاقها على غير صعيد. هذه مشكلةٌ سوريةٌ بيد أنها أكثر تعقيداً مما بسطت. ففي ثنايا الاستبداد والطغيان، المتلبِّس شعارات قومية، تثوي قضايا أخرى لم تحلها “الدولة الوطنية”، ولا قواها المعارضة، علمانيةً كانت أم دينية. هذا يعني أن الهويات، ما قبل الوطنية، ظلت تسري في أوردة “الحياة الوطنية” التي يفترض أن الدولة السورية التي انقضَّ عليها العسكر بُعيْد تشكلها، أزاحتها إلى الهامش. لكن يمكن للهامش، في حالة ضغط أو تحفيز، أن يتّسع، ويزحف على المتن، وربما يتمكن من بسط نفوذه عليه.
وهذا يطرح سؤالاً، يوجّه إلى السوريين، العراقيين واليمنيين والليبيين: من نحن؟ ممّ نتشكل؟ ما السوري والعراقي واليمني والليبي فينا؟ أهو الأصل؟ أم الفرع؟ ولكن، بما أننا نتحدّث عن سورية أعيد طرح هذا السؤال: هل يجرِّد تأييد هذا الطرف السوريّ أو ذاك من سوريته، ويعيده إلى طائفته وقوميته، وربما عشيرته أيضا؟ هل يمكن أن نناقش القضية السورية (وهي قضية بحق) في السياسة من دون دخول الطائفي والديني والقومي والجِهوي على الخط؟
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة