حازم الأمين*
لا يعتقد حسن أن قتال حزب الله في سورية «حقّ»، وهو يهمس بذلك لقريبين منه بينهم مناصرون لحزب الله. لكن حسن ما إن يعلم بوصول جنازة لأحد عناصر الحزب، ممن يقاتلون في سورية من أبناء قريته في جنوب لبنان، حتى يقصد منزل العنصر القتيل، ويصير الأخير «شهيداً» تلازم العبارة اسمه ما إن ينطقه كل أبناء القرية، ومن بينهم حسن.
إنه الشهيد فلان على ما يقول حسن، وهو إذ يُخرج العبارة من فمه مفخمة، يُدرك أن الصوت يصل إلى آذان الحزب فيمحو ما تناهى إلى المسامع من تحفظاته عن القتال في سورية.
لا يريد حزب الله أكثر من ذلك من الجنوبيين اللبنانيين. أي القبول الشكلي بمهمته في سورية، وأن لا يكون للاعتراضات الطفيفة على مهمته ضوضاء اجتماعية. وهو يدرك أن التصدي للأصوات المرتفعة في وجهه سيحدث ضوضاء، فيقابل هذه الأصوات بابتسامات مفتعلة يوزعها عناصره على الجميع. علماً أن هذا ليس من «تقاليد العرب» حين يُغضبهم مُخاطب أو مُجادل. ومع قدرٍ قليل من البارانويا قد يتساءل المرء عما إذا كان إيرانيون وراء هذا المزاج الموارب وهذه الابتسامات غير المكتملة.
ثمة تقية بينية مستجدة تمارسها الجماعات الأهلية الشيعية اللبنانية، يمكن لمراقب أن يرصد بعض أوجهها في العلاقات التبادلية اليومية التي تربط هذه الجماعات بعضها ببعض.
تفاوتات كبيرة في قناعات الشخص الواحد، لا سيما المرتبطة منها بالشأن العام. الرأي الذي يُفصح عنه بين إثنين ليس هو نفسه ما يُفصح عنه إذا ما حضر ثالث. مساعٍ جلية يتولاها أفراد لإضافة مشهد صغير على طقس عابر. ابتسامات تنطوي على ما يُفهم من انفعالات. بحيث يشعر المرء أنه حيال نظام مختلف الإشارات التي ترسلها الوجوه عندما تتخاطب. نظام بمفاتيح مختلفة.
الأرجح أن هذه الجماعات اختبرت السلطة للمرة الأولى في تاريخ علاقتها بالدولة اللبنانية. والسلطة تقتضي قدراً من مواربة الحقائق ومن المراوغة. القتال في سورية ليس «حقاً» لكنه «ضرورة»، وهو ضرورة تمليها شروط تصدر الجماعات الأخرى، والتفوق عليها. كما أنها «ضرورة» أفضت إلى نقل الجبهة من جنوب لبنان إلى مكان بعيد، مع ما ترافق مع ذلك من أمن لم يشهد الجنوب مثيلاً له منذ أكثر من 11 عاماً.
فكيف لجماعة أهلية أن تسوق قتالها بغير «الحق»؟ كيف لها أن لا توارب وكيف لها أن تُنشئ لغة لهذه المراوغة؟ من لا يمتلك أجوبة عليه أن يكون مفصوماً بين اعتراض كلامي على المهمة وقبول اجتماعي بها. هذا شأن حسن الذي يراوغ نفسه، وشأن عبير التي تراوغنا بأنها تُشبه الحزب، فتمضي إلى خياراته، وترسل صورها خاشعة وهي على شرفة تطل على الجنازة.
الوجوه المبتسمة هي الإجابة عن كل هذه الأسئلة. العبارات المستقدمة من قواميس التشيع الجديد، وأسماء فصائل الحشد الشعبي العراقي، مع ما تحمله هذه الأسماء من صور تشبه الجداريات العراقية الجديدة. الحقائق والأخبار عن ضيق الإيرانيين بحلفائهم من عناصر الميليشيات العراقية، وتفضيلهم اللبنانيين. بهذا كله تستعيض الجماعة الأهلية الشيعية في لبنان عن أسئلة «الحق بالقتال في سورية»، أي بتجاوز السؤال إلى ما بعده وإلى ما قبله. بالانشغال بالعالم الجديد المستقدمة صوره من حروب ليست قريبة.
والحال أن حزب الله لا يواجه مقاومة ضارية حيال سعيه للإمساك بناصية العبارة وبشعائر الحياة العادية للجماعات التي يحكمها بلطف في جنوب لبنان. فإذا أراد الحزب أن يستعيض عن عبارة «أستاذ» بعبارة «حاج» كان له ما أراد مشفوعاً بابتسامة أين منها ابتسامة حسن حين يُخرج كلمة «شهيد» من فمه مفخمة.
والحزب لم يزجر أحداً حين أشاع عباراته، فقد فعل ذلك بكثير من الثقة، وبشعور بالقوة والقدرة على فعل ذلك. حين تحتج أمام عنصر منه يخاطبك بعبارة «حاج»، يبتسم الأخير ويقول لك «يرحم والديك»، وحين يموت عمك، فإن أول من يحضر لدفنه ولتحضير الجنازة رجال جدد من القرية يعيشون في ظلال الحزب، وهؤلاء إذ يعرفون أن أهل من يدفنون لا يكنون وداً للحزب ولخياراته، يضاعفون جهدهم ولطفهم مدركين أن ما يفعلونه أهم لهم بكثير من ضيق أهل الفقيد بمهمتهم في سورية. فمن هنا تنشأ السلطة، من هذه الثقة الكبيرة بالمهمة الصغيرة، ومن إمساكهم بجثامين آبائنا وبقبورهم.
ثم إن غير المؤمنين بحزب الله من الجماعات الشيعية اللبنانية استدخلوا الكثير من صور الحياة التي بثها الحزب إلى لغتهم وأشكالهم من دون أن يكون ذلك قد تم بالفرض أو القهر. جرى ذلك بهدوء ومن دون ضجيج. الجنازة القادمة من سورية هي لـ «شهيد» في عرف غير المؤمنين بالحزب، و «الحاج» عبارة سائرة وإن لم يشتهوها.
ما سبق أن توهمناه لجهة أن حزب الله ليس قوة أهلية، وأنه جسم تنظيمي غريب عن التركيبة الاجتماعية للشيعة اللبنانيين، وأنه سلطة عارية عن أي بعد اجتماعي، هذا الوهم لم يعد حقيقة. فالحزب صار يُشبهنا، أو صرنا نشبهه. كلانا قطع مسافة للقاء الآخر. وبما أنه القوة والسلطة فقد تمكن منا، فصار واحدنا «حاجاً» ولم يعد «أستاذاً»، علماً أن التعبير الأخير عزيز على قلوب الجنوبيين، فهو ما أطلقوه على رئيس مجلس النواب نبيه بري في مرحلة سابقة، لكن نجل بري صار في مرحلة لاحقة «الحاج عبدالله». الأب هو الأستاذ، والابن هو «الحاج»، وهذا مؤشر بوصلة الشيعة اللبنانيين في زمن حزب الله.
وبهذا المعنى يبدو أن التشيع باشر انقطاعه عن خبرات العيش خارج السلطة وخارج الدولة، وما فوضى المشاعر والعبارات إلا صورة عن مرحلة انتقالية لم تبلور فيها الجماعة بعد خطاباً تُعرف به عن نفسها الجديدة. لكن «الحق» ليس وجهة هذه «النفس الجديدة»، تماماً كما لم يكن وجهة أي جماعة سائرة إلى السلطة ومزهوة بها.
المصدر: الحياة
عذراً التعليقات مغلقة