* غسان الإمام
طار عباس بن فرناس. فوقع على مؤخرته. وانكسر عموده الفقري. لو أنه أدرك كيف يحط الطائر على مؤخرته، لكانت لدى العرب اليوم صناعة طائرات حربية متقدمة على الـ«إف» الأميركية. والسوخوي الروسية.
بعد طوفان سيدنا نوح، دارت الحروب التي فتكت بملايين البشر، على البر. وكانت نصيحة أبي العلاء المعري للناس، بتخفيف وطأة أقدامهم على الأرض: «فما أظن أديم الأرض، إلا من هذه الأجساد». ولأن الفيلسوف المعري اكتشف سر التراب المجبول بالعظام الفانية، فقد كفرته «جبهة النصرة». وأطاحت برأسه من نصبه التذكاري في مدينة المعرة.
ابتكرت الرأسمالية الصناعية المدافع. والقنابل. والدبابات، فوفرت الحماية للجنود المشاة من القتل البارد في العراء. ثم رفعت رأسها إلى الفضاء. فعثرت على هذه الحديدة التي نسميها «الطائرة». من سوء الحظ، فقد سبقت تقنية الطائرة الحربية التي تقتل البشر تقنية الطائرة المدنية التي تنقل الركاب.
كانت تسليتي الوحيدة في سن المراهقة الهرب من المدرسة الثانوية، لأختبئ في ظلام السينما، بعد ظهر كل يوم. لم يبهرني جيمس دين. ومارلون براندو، بقدر ما بهرني ذلك الطيار الأعور الخبيث الذي أسقط كل الطائرات المعادية في الفيلم التي كان يقودها طيارون ينظرون إلى الأمور من ناحيتين، بعين منحرفة إلى اليسار. وعين منحرفة إلى اليمين.
كسب حلفاء الديمقراطية الرأسمالية الحرب العالمية الثانية، من الجو، على دول المحور الفاشي (ألمانيا. إيطاليا. اليابان). ومات الرئيس المشلول فرانكلين روزفلت على دراجته البرية، فمنح نائبه هاري ترومان الفرصة، لشن أول حرب نووية.
من قال إن الحروب لا يمكن كسبها من الجو؟! فلسف ترومان الحرب النووية فقال إنها تختصر ضحايا الحروب التقليدية. وانتقامًا من معركة بيرل هاربر التي شنتها اليابان، من الجو، على الأسطول الأميركي (1941)، فقد فتكت قنبلتان أميركيتان نوويتان بـ150 ألف مدني ياباني فقط. وانتهت الحرب من دون حاجة إلى أن يقصف العم ترومان العاصمة طوكيو بقنبلة ثالثة مخيفة. فقد استسلم الجيش الأصفر الياباني، بعد قصف الإنسان الأبيض لهيروشيما وناغازاكي.
لم يعد إنسان المجتمعات المتقدمة يرضى أن يذهب إلى الحرب، ليموت جنديًا في الجيش. فهو يريد أن يذهب سائحًا يتمتع بحياته وحقوقه في التعايش السلمي مع الآخرين.
للنقص المتزايد في الجنود، فقد قامت استراتيجية الحرب الحديثة على شن الحرب من الجو، بالطائرة النحلة (درون). وكان هدفها القضاء على إرهاب العنف الديني. بصرف النظر عن الضحايا المدنيين. وكسب الرئيس فلاديمير بوتين الحرب على مستعمرته المسلمة (شيشنيا) بتدمير عاصمتها غروزني من الجو، فوق رؤوس سكانها المدنيين. وتسليمها إلى رمضان قديروف.
يجد بوتين اليوم أن من السهل العثور في سوريا، على حاكم من قماش قديروف، وذلك في شخص رجل قمعي كبشار. ونظامه الدموي المتخلف. فيقتل شعبه. ويدمر مدنه، بمباركة من «آيات» إيران.
«دواعش» شيشنيا ردوا على الحرب من الجو، بالإغارة الانتحارية على رواد المسارح. والمدارس. ومحطات المترو الروسية. فخسروا سمعة قضيتهم أمام العالم، باستثناء العالم العربي الذي يفسر السياسات بالعواطف لا بالمصالح. ولا يعرف أن روسيا أطلقت سراح دول آسيا الوسطى. ولا تستطيع الاستغناء عن دويلات القفقاس المسلمة، لأن هذه الدولة المسيحية الأرثوذكسية لديها عشرون مليون إنسان من التتار المسلمين المتأهبين للمطالبة بدولة دينية في صميم روسيا.
المجتمع الروسي لا يملك تقاليد ديمقراطية، ليتعاطف مع السوريين. وبوتين يغطي حربه الهمجية في سوريا، بشن حملة دعائية لكسب الرأي العام في الداخل. ولتهديد الغرب بحرب نووية. فَشَلَّ بمناوراته البارعة أميركا أوباما. والرئيس الجديد الذي يجري انتخابه اليوم (الثلاثاء). واستمال لبنان. وتركيا. وإيران. والعراق. بالإضافة إلى سوريا.
هل يمكن أن تتحول الحرب الجوية، إلى حرب نووية؟ إنها هي أيضًا حرب جوية يتحكم بها الرئيسان الأميركي والروسي. في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أمر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بالاستعداد لشن حرب نووية على روسيا، بعدما عبرت القوات المصرية قناة السويس لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي. ونزلت القوات السورية من الجولان، إلى سهل الجليل الأعلى في فلسطين المحتلة.
أغلقت الأبواب والجدران الفولاذية (سماكتها ثمانية ملايين طن) على خبراء الحرب في مراكز إطلاق الصواريخ النووية في عمق الأرض، بانتظار إشارة من نيكسون لكبس الأزرار، من دون أن يعرفوا أن الرئيس في تلك الليلة كان يعاني من أزمة «ووترغيت» التي ما لبثت أن أطاحت به. وقد ذهب إلى فراشه مخمورًا، تاركًا الموقف المتأزم مع روسيا بين يدي وزيريه هنري كيسنجر وجيمس شليسنجر اللذين استعاضا عن حرب تدمر العالم، بطائرات أميركا الرمادية في حلف الناتو، فدمرت دفاعات مصر وسوريا الجوية. وغيرت ميزان الحرب.
لا أكشف سرًا إذا قلت إن أوباما العازف عن الحسم في سوريا، يخوض حربًا جوية وبرية حقيقية. أين؟ في الصومال، انتقامًا من «القاعدة» التي قتلت هناك 18 جنديًا أميركيًا في عام 1993. ثم دمرت المركزين التجاريين في نيويورك (2001). الهدف في الصومال اليوم هو تدمير تنظيم «الشباب» الموالي لـ«القاعدة». وقد نشأ في عام 2006، لمقاومة القوات الإثيوبية التي استعانت بها أميركا في الصومال. فارتكبت حرب إبادة همجية.
وهكذا، فتقنية الحرب الحديثة تلغي الجيوش الضخمة لدى الدول الكبرى. وتستعيض عنها بجيوش النخبة الصغيرة، معتمدة على طائرة الـ«درون» في الحروب الجوية، ضد العدو المحوري. ضد «إرهاب» العنف الديني في العالمين العربي والإسلامي.
هذه الحروب هي في بدايتها. لم تتجاوز، بعد، أحلام الخيال العلمي. وأفلام هوليوود عن الحروب الفضائية والجوية. مع تغييب تام للمسؤولية الأخلاقية عن الضحايا المدنيين. حتى «داعش» تستخدم اليوم في حرب الموصل طائرة «درون» صغيرة، للتجسس وكقنبلة طائرة قتلت جنودًا أكرادًا. وعراقيين. وأميركيين.
أميركا التي تدحرجت إلى رتبة دولة ثانوية الأهمية في المنطقة العربية تريد الاحتفاظ بمركزها كأقوى دولة في العالم. أما روسيا فربما تريد عقد مؤتمر (يالطا) آخر لإعادة اقتسام العالم، مفضلة الاحتفاظ بسوريا والمشرق والشواطئ الشرقية للمتوسط، بديلاً لأوروبا الشرقية المتحررة من النير الشيوعي.
هل تؤدي الـ«درون» المهمة الذكية المطلوبة منها؟ هل تحولها التقنية إلى إنسان آلي ذكي (روبوت)، يبحث بنفسه عن هدفه، فيما يتابعه الخبراء العسكريون والأمنيون الذين أطلقوه، وهم مسترخون في مخابئهم النائية جدًا عن ميادين الحروب الدائرة في عواصمنا وبلداننا؟
* نقلاً عن: “الشرق الأوسط”
عذراً التعليقات مغلقة