

في الوقت الذي أدار فيه العالم ظهره لسوريا، وواصل فرض العقوبات التي أنهكت الشعب لا السلطة، جاء الأشقر دونالد ترامب بقرار غير متوقع: لقاء الرئيس أحمد الشرع في الرياض عاصمة الخير، وفتح باب رفع العقوبات.
ليست المسألة تأييداً سياسياً، بل اعترافاً بأنّ ما فعله ترامب كان إنسانياً قبل أن يكون دبلوماسياً. خطوة كسرت عزلتنا، وذكّرت العالم أننا بشر ولسنا ملفاً أمنياً فقط.
قد نختلف معه في كل شيء.. لكن هذه المرة نقولها بصوت واضح: شكراً للرئيس الأشقر، لأنك مددت يداً في زمن الحصار اللاأخلاقي.
من النادر أن تهتزّ ملفات الشرق الأوسط بفعل قرار فردي، لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثبت مراراً أنه ليس سياسياً اعتيادياً، وبينما ظلّ الملف السوري لسنوات ساحة للمناكفات الدولية، وأداة في لعبة توازنات كبرى بين القوى العظمى، اختار ترامب أن يُحدث خرقاً مدوياً عبر قراره بلقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، وإعلانه بدء مسار رفع العقوبات عن سوريا.
هذا القرار لم يكن لحظة عابرة، بل تحوّلاً استراتيجياً.
في العرف السياسي الأميركي، لطالما تم التعامل مع سوريا كدولة معزولة، خاضعة للضغط، لا يُسمح لها بالخروج من دائرة العقوبات إلا إذا استوفت شروطاً تعجيزية، غالباً ما تُصاغ وفق أجندات تتغير بتغير الإدارات. لكن ترامب، المعروف بقراراته الصادمة وخروجه عن المألوف، لم يخضع لهذا الإيقاع، بل أعاد تعريف المصلحة الأميركية في سوريا من زاوية مغايرة: السلام لا يُبنى على التجويع، ولا على الإقصاء، بل على الاعتراف بواقعٍ لم يعد من الممكن إنكاره.
في هذا السياق، لم يكن لقاؤه بالرئيس أحمد الشرع مجرد لقاء بروتوكولي. لقد كان اعترافاً ضمنياً بشرعية قيادة تشكلت بعد سنوات من الحرب، وسنوات من المحاولات الدولية لفرض نماذج سياسية بديلة لم تلقَ القبول الشعبي. أراد ترامب أن يبعث رسالة مفادها أن أميركا مستعدة لإعادة قراءة المشهد، وأن السياسة الخارجية يجب أن تُبنى على النتائج لا الأوهام.
بين الأخلاق والسياسة: كسر الحصار لا يعني دعم الأنظمة، بل إنصاف الشعوب
من السذاجة أن يُختزل هذا القرار في إطار “الاصطفاف مع النظام”، كما حاول البعض تصويره. فرفع العقوبات جزئياً لا يعني إعادة تأهيل سياسي فوري، بل هو خطوة أولى نحو إعادة التوازن الإنساني، ووقف سياسة العقاب الجماعي التي دمرت حياة ملايين السوريين دون أن تحقق أي نتائج سياسية تُذكر.
لقد دفع السوريون ثمن العقوبات وحدهم. فالمريض الذي لا يجد دواءً، والطالب الذي لا يملك كهرباء ليذاكر، والمزارع الذي لا يستطيع شراء البذور أو تصدير محاصيله، كلهم كانوا وقوداً لحصار طويل لم يسقط النظام، بل أنهك الشعب وأضعف المجتمع. وكان لا بد من مسؤول دولي يتجرأ ويعترف بأن هذه السياسة فشلت، وأنها بحاجة إلى مراجعة عميقة.
وهنا تحديداً يبرز دور ترامب، ليس كمُخلّص، بل كرئيس امتلك شجاعة مخالفة التيار.
صدمة الحلفاء، ودهشة الخصوم
لقاء ترامب بالشرع لم يسرّ الجميع، بطبيعة الحال. فقد فوجئت العواصم الغربية، وخصوصاً تلك التي كانت تراهن على استمرار العزلة، بهذا الانفتاح المفاجئ. لكن الأهم من ذلك أن خصوم ترامب في الداخل الأميركي استغلوا هذا الموقف لتوجيه المزيد من النقد له، معتبرين أنه “يُضفي الشرعية على قيادة لا تستحقها”.
لكن الحقيقة التي تجاهلوها هي أن الاستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن أن يُفرض عبر أدوات القوة فقط، بل يحتاج إلى شراكات طويلة الأمد. ومن يقرأ التاريخ جيداً، يدرك أن كل محاولات عزل الدول انتهت بخلق أزمات مضاعفة، وأن الحوار هو السبيل الوحيد لبناء تسويات قابلة للحياة.
ارتياح في الداخل السوري: “أخيراً، من ينظر إلينا كبشر”
ردة الفعل في الداخل السوري كانت واضحة: ارتياح خجول، لكنه عميق. لم يذهب السوريون إلى المبالغة في التفاؤل، فهم يدركون أن رفع العقوبات لن يعيد الإعمار في ليلة واحدة، ولن ينهي معاناتهم بالكامل. لكنهم، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، شعروا بأن العالم يتذكرهم كـ”شعب”، لا كملف أمني أو نقطة على خريطة الصراعات.
كلمات الشكر التي ترددت على ألسنة العامة، في الشوارع السورية التي أنهكها الطغيان، لم تكن سياسية، بل إنسانية. قالها كثيرون: “شكراً للرئيس الأشقر”، تعبيراً عن امتنان لمن مدّ يده بينما أدار الآخرون ظهورهم للإنسانية قبل استدارته للسوريين.
ترامب والشرق الأوسط: حين تصدمك الواقعية
صحيح أن ترامب انسحب من ملفات كبرى، وتسبب بسياسات جدلية في مناطق كثيرة، لكن تجربته مع الشرق الأوسط، وخصوصاً في الملف السوري، كانت قائمة على “الواقعية الصادمة”، نهج يقوم على تقويض القوالب الجاهزة، وفرض مقاربة جديدة تدمج السياسة بالمصلحة والجرأة في اتخاذ القرار.
قد لا يتفق كثيرون على أسلوبه، لكن لا أحد ينكر أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي قرر التعامل مع سوريا بطريقة مغايرة منذ أكثر من عقد. وهذا وحده، يجعل اسمه حاضراً في ذاكرة السوريين، ولو من باب الاعتراف بالفضل.
في النهاية: ليس حباً، بل اعترافاً
لن يُشيّد السوريون تماثيل لترامب، ولن يرفعوا صوره في الساحات، فهم شعب يعرف كيف يميّز بين التكتيك السياسي والموقف الأخلاقي. لكنهم أيضاً لا ينسون من وقف إلى جانبهم ولو للحظة. وإن كان لا بد من شكر، فهو شكر صادق لا يقوم على الاصطفاف السياسي، بل على قاعدة بسيطة: من حاول إنقاذنا من الجوع والعزلة، يستحق كلمة شكر.
وهكذا نقول:
شكرًا للرئيس الأشقر.