دخلت حكومة تصريف الأعمال في دمشق شهرها الثاني بقيادة قائدها العام أحمد الشرع، محققةً حزمة من الإنجازات في صُعد عدّة، أهمها في ملف العلاقات الخارجية، حيث ظهرت الدبلوماسية السورية الوطنية في أرقى صورها، وأعادت التأكيد عبر ممثلي الحكومة الجديدة على دور دمشق التاريخي، وردّ الاعتبار لسورية والسوريين من خلال التعامل الحضاري، والأخلاقي مع الوفود الغربية الأوروبية، والعربية التي تزاحمت على العاصمة دمشق.
على الرغم من تفاوت مواقف الوفود من التغيير الحاصل في سورية، والنبرة الاستعلائية التي ظهرت في زيارة الوفد الوزاري الفرنسي الألماني مع حكومة الشرع، إلّا أنّ عقلنة حكومة دمشق، ونفسها الطويل، وبصمتها البراغماتية، نجحت في تجنّب الوقوع في مكائد بعض الدول، التي حاولت استفزاز الحكومة بمحاولتهم فرض شروط وإملاءات، والتدخل في رسم مستقبل سورية، مستخدمين الذرائع الاستعمارية المكشوفة في الحديث عن حماية الأقليات، وحقوق المرأة، والتنوع الفكري والثقافي والأيديولوجي، متناسين جميعهم دورهم المخزي خلال سنوات الحرب في سورية، وترك السوريين أمام محرقة الأسد دون أي حديث عن حقوق الأكثرية التي كانت تتعرّض لإبادة جماعية نصفها من النساء والأطفال.
رغم ذلك احتوت حكومة دمشق كل المواقف والتصريحات المستفزّة، بما فيها بعض مواقف عربية متخوفة من وصول الإسلاميين لسدة الحكم، وذلك ليس بسبب قصر نظر، أو عدم دراية من قبل المسؤولين السوريين، بل لغايات أسمى وأهم تُعنى بمصلحة البلاد العليا، وحاجتها لجميع الدول لإخراج سورية من مستنقع الأسد، والنهوض بها إلى مرحلة الاستقرار، والانتقال من نموذج المافيات، والعصابات إلى نموذج الدولة الحديثة.
الأداء السياسي لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بات حديث كبرى الصحف العربية والدولية، وظهور أحمد الشرع على قناة العربية، وقبلها البي بي سي، والرسائل الإيجابية التي أوصلها شرقاً وغرباً، جعلت غالبية الدول تنتقل من مرحلة التردّد إلى المبادرة الفعلية في مساعدة سورية بكل المستويات، لعلّ أهمها ما يصدر من قرارات عن اجتماع المملكة العربية السعودية، التي خصصت مؤتمراً لمساعدة سورية، بحضور ممثلين عن 17 دولة.
تأتي أهمية مؤتمر الرياض في كونه الاجتماع الأول على مستوى الدور والمشاركة لمساعدة سورية، منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمير/ كانون الأول 2024، وهذا يعني إجماع شبه دولي على الاعتراف بشرعية حكومة دمشق، ودعمها، ومساعدتها في رفع العقوبات كلياً بعد نجاحها جزئياً في رفع العقوبات لمدة ستة أشهر، كما مثلت عودة المملكة العربية السعودية لدورها التقليدي في سورية، ضمانة إيجابية لبقية الدول المترددة، والمتخوفة من وصول حكومة إسلامية إلى دمشق، وسيدفعها في قادمات الأيام، إلى انفتاح كامل، بعد الضمانات التي حصلت عليها من أصدقاء سورية الأساسيين كتركيا وقطر.
إنجازات حكومة الشرع على الصعيد الخارجي تُعد الأهم لأنها الضمانة الوحيدة لإنقاذ سورية من تركة نظام الأسد، فبدون رفع العقوبات، والاعتراف الكامل بحكومة دمشق، لن يُكتب النجاح لتعافي سورية، فكل مجالات الإنعاش في سورية من تعليم، وصحة، وخدمات، وطاقة وكهرباء، واقتصاد، وصناعة، وتجارة، مرتبطة بنجاح المسار السياسي، وحتى الآن نجاح حكومة دمشق مميّز مقارنة بالفترة الزمنية على وجودها بدمشق، ويبقى التحدّي الوحيد في هذا الجانب بمدى استمرار حكومة دمشق على هذا النهج، ومدى تقبّلها نصائح الدول، وترجمة الوعود، والأقوال إلى أفعال، خصوصاً بما يتعلّق بمخاوف بعض الدول في مسائل الأمن القومي، ومكافحة الإرهاب، وعدم تصدير الثورة إلى دول أخرى.
داخلياً وهو ما يهمنا بالدرجة الأولى بسبب أن كل ما سبق من حديث عن إنجازات خارجية، مرهونة بمدى نجاح حكومة دمشق في حل مشاكل السوريين، ورأب الصدع المجتمعي، وإدارة الاقتصاد، وفرض الأمن، وتوفير الخدمات، وتدوير عجلتي الصناعة والتجارة، والأهم شرعية الحكومة وانتقالها من شرعية ثورية إلى دستورية.
في واقع الأمر منذ انتهاء عملية ردع العدوان وحتى الآن أكثر ما نجحت به حكومة دمشق على الصعيد الداخلي، هو فرض الأمن في المحافظات السورية، عبر حملات جوالة مستمرّة حتى الآن، وتجاوزت بذلك كبرى الأخطار المحدقة في البلاد كحالات ثأر انتقامية، والانزلاق إلى حرب أهلية، هذه ما كان يُعول عليها بشار الأسد الهارب، عبر القرارات التي أصدرها قبل يوم من هروبه، في حل الجيش والأجهزة الأمنية، حيث رغب في ذلك حدوث فوضى كبرى بين المكونات السورية، وجرّ البلاد إلى النموذج الليبي، والتضحية بطائفته العلوية التي اضطهدها وخانها طيلة عقود.
بيد أنّ حكومة دمشق نجحت حتى الآن على أقله في إبعاد هذا الخيار المرعب عن البلاد، وبغية نسفه بشكل كامل تحتاج إلى تجاوز التحدّي الكبير في حل الفصائل وسحب سلاحها، ودمجها تحت مظلة عسكرية واحدة بقيادة وزارة الدفاع، ولا يخفى على أحد أنّ هذا الملف بات أحد أهم المحاذير أمام الحكومة، بعد تمسّك الكثير من الفصائل بسلاحها، ورفض تسليمه للحكومة إلّا بعد الوصول إلى مرحلة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط، تضم كل أطياف، ومكونات الشعب السوري، هذه المطالب ظهرت بشكل معلن في محافظة السويداء على لسان زعيم الطائفة الدرذية حكمت الهجري، علماً أنه لا يمثل رأي كل أبناء المحافظة، كما ظهر تحفظ من قبل فصائل الجنوب برفضها تسليم السلاح في الوقت الحالي، إلّا بعد نسج تفاهمات وترتيبات مع حكومة الشرع تضمن عوامل الاستقرار في البلاد، الموقف لا يختلف كثيراً عن فصاتل الجيش الوطني في شمال غرب سورية، المدعومة من قبل تركيا، تبريرهم الوحيد أنهم يخوضون حرباً ضروس مع قوات سورية الديمقراطية “قسد” في شمال شرق سورية، ولن تنتهي مهمتهم قبل طرد ” قسد” من سورية، الموقف هنا مرتبط على ما يبدو بقرار تركي لبقاء تللك الفصائل ورقة رابحة بيدها في حربها المستمرة مع مشروع حزب العمال الكردستاني.
بالمحصلة ملف توحيد الفصائل، ورغم إعلان رسمي من قبل أحمد الشرع في حلّها ودمجها في جسم واحد، هو من كبرى العوائق والمحاذير أمام وزير الدفاع مرهف أبو قصرة.
لا يمكن إغفال التحسّن الجزئي في الواقع المعيشي، عبر توفير الخبز في الأفران، والمحروقات بأسعار مخفضة، والفواكه والخضروات، والمياه، تبقى مسألة الكهرباء هي الأهم بسبب حجم الدمار الذي لحق بالمحطات، فإصلاحها، يحتاج إلى تدخل شركات متخصصة، بسبب عدم توفرها في سورية، كذلك توفير الكهرباء مرتبط بتأمين مواد الفيول، وهذه معظمها في مناطق تستولي عليها قوات سورية الديمقراطية “قسد”. بالمجمل تحدث أحمد الشرع في أحد تصريحاته أنّ توفير الخدمات الأساسية تحتاج لعام على الأقل، وهي مدّة معقولة بالنظر إلى حجم الدمار في البلاد.
المعضلة الداخلية الأهم في سورية متعلّقة في جزئيتين هي أولاً مسألة إنعاش الليرة السورية والاقتصاد، فحسب تصريح سابق لرئيس الحكومة محمد البشير فإنّ خزينة الدولة تحوي فقط على 200 مليون دولار، وهذا ما يضع الحكومة أمام تحدّي كبير في كيفية معالجة الاقتصاد، وتوفير الرواتب للموظفين، وربما بسبب هذا التحدّي الكبير، شهدنا قرارات ارتجالية غير مدروسة من بعض وزراء حكومة دمشق، كقرار تسريح جماعي لموظفين، وأخرى جاءت في سبيل دعم المنتج المحلي، فرفعت الحكومة أسعار الجمركة على المواد المستوردة، بأرقام كبيرة، ما تسبب بموجة انتقادات حادة، من قبل السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
بحسب خبراء في الاقتصاد فإنّ قرار رفع الجمركة، صحيح من حيث المبدأ، فأي بلد يجب أن يقوم على توحيد أسعار الجمارك في حدوده البرية والبحرية، كذلك التبرير الذي ظهر من قبل مدير العلاقات العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علوش لوكالة سانا، يعد تبريراً منطقياً أيضاً من حيث المبدأ في حماية المنتج المحلي، لكن في حالة مثل سورية لا يوجد فيها بعد أي مقومات للنهوض بالصناعة المحلية والتجارية، فهو قرار مجحف، أي أنّه قرار خاطئ من حيث التوقيت، وكان على الحكومة أن لا تقترب من لقمة الناس في هذه المرحلة، وتؤجل هذا القرار.
كذلك خلال الشهر الحالي ظهرت قرارات استفزازية كالسجال الذي حصل في تعديل بعض المواد بالمنهاج الداراسية، وأخرى متعلقة بتعيين بعض الشخصيات داخل الحكومة ضمن نفس القاعدة اللون الواحد، وقائمة الترفيعات لبعض الضباط بينهم أجانب، هذه كلها سببت سجالاً وشد عصب بين المكونات السورية، ورفعت من منسوب مخاوف السوريين على مستقبل بلادهم.
الجانب الآخر، من المعضلة الداخلية هي سياسية، ظهرت في حالة التخبط وعدم الشفافية، في شرعية قرارات الحكومة الحالية، وحالة الغموض حول مؤتمر الحوار الوطني، حيث كثر السجال عن هذا المؤتمر، وتعدّدت الأفكار والطروحات، والتواريخ عنه، وعن جدوى انعقاده وأهدافه، وبعد الحديث عن عقده أوائل الشهر الحالي، وبمشاركة 1200 شخصية، جاء النفي من قبل وزير الخارجية أسعد الشيباني قبل أيام، معلناً عن تأجيله بهدف إتاحة المجال أكثر لتوسيع التمثيل من كل الأطياف والمكونات، عزا البعض تأجيل الحكومة للمؤتمر بسبب عدم امتلاكها تصور واضح، وخطة مدروسة تقود لنجاحه، فيما رأى آخرون صوابية في تأجيله بسبب غياب الظروف المواتية، حيث تعيش سورية حالة ولادة جديدة، ولازال شرق سورية خارج سيادة الدولة، وأي حوار سوري سوري، مآله الفشل إذا لم تكون كامل سورية تحت مركزية دمشق، بسبب أنّ المؤتمر من المفترض أن يحدد خارطة مستقبل المرحلة الانتقالية لسورية، بحيث تنتج عنه لجان وهيئات متعددة، تعمل كل واحد منها على مهام مستقلة، ككتابة الدستور، وهئية للعدالة الانتقالية، وللجمعية التأسيسية ، وصولاً لتهيئة البلاد لمرحلة الانتخابات.
هذا تحدّي كبير وربما الأهم أمام حكومة دمشق، ولا أحد يعلم بعد فيما إذا كان الأنسب لسورية هو استبعاد كل ما سبق والتوجّه فوراً إلى تشكيل جسم انتقالي من عسكريين ومدنيين، لشرعنة قرارات حكومة الشرع في الداخل والخارج، ونقلها من الحالة الثورية إلى الدستورية، أو الإصرار على عقد المؤتمر الوطني بتمثيل واسع.
كلا الخيارين يشوبهما نقاشات حادة، ومن الواضح أن حكومة الشرع لازالت تتريث، وتستمع لكل الأصوات، وهذا جيد كي يساعدها ذلك على اختيار الخيار الأنسب، لكن الخطر الكبير هو إطالة حالة الانتظار، وعدم تقدّمها خطوة إلى الأمام، فمن شأن ذلك أن يفتح الباب على التدخلات الخارجية، وزيادة الشرخ بين السوريين، وربما الفرصة الأخيرة ستكون للمدة المعلنة لحكومة تصريف الأعمال في شهر مارس/ آذار القادم، حيث سيكون هذا الشهر مفصلي في حاضر ومستقبل سورية والسوريين.