كي نتجاوز ما قد يبدو شخصنة لما سيلي؛ لا يتوقف الحديث هنا على أحمد الشرع، فهو كان سيصلح إزاء أي حاكم فعلي لسوريا ضمن سيناريو مختلف عما حدث فعلاً. وبالمعنى ذاته، لا ينطلق ما سيلي من اعتبارات أيديولوجية، لأن قسماً كبيراً منه عابر للأيديولوجيات، ويبقى مشروعاً فيما لو كان الحاكم الفعلي شخص آخر بأيديولوجيا غير إسلامية.
في بلدان نحلم باللحاق بها، ثمة خشية أميركية، عبّر عنها كثر، من أن يعمد ترامب، الرئيس المنتخب ديموقراطياً، إلى الانقلاب على الديموقراطية التي أتت به إلى البيت الأبيض ثانية. في فرنسا، انتُقد الرئيس ماكرون في العديد من المناسبات لأنه تجاهل روح الديموقراطية، رغم استغلاله فقرات دستورية أو قانونية تبرر له تجاهل روحية القوانين التي يجب أن تكون لها أولوية موازية للنصوص. واقعياً، وحيثما أمكن، لا ضمانة لمنع أي حاكم، منتخب أو غير منتخب، سوى الضغط بالقوانين وبالحراك السياسي.
وعندما نسأل: كيف يُحمى أحمد الشرع؟ فهو سؤال يُطرح بحكم وجوده في موقع السلطة حالياً، السلطة التي تتحول إلى استبداد متى وجد الحاكم إليه سبيلاً. وهذا سؤال بطبيعة الحال لا يفترض سوء النوايا مسبقاً، بل قائم على أن النزوع إلى السيطرة من صفات معظم البشر، ولو تُرِكوا لأهوائهم بلا قوانين لرأينا العجب. وإذا افترضنا حسن النية لدى الشرع، فمن الأولى حمايته من أن ينزع إلى السيطرة والاستئثار بالسلطة.
لقد قيل الكثير في الأيام الأخيرة عن براغماتية الشرع، بما فيها تخلّيه عن لقب الجولاني، وصولاً إلى ظهوره بلباس مدني وهو يدعو إلى الاحتفال بالنصر يوم الجمعة، ومن ثم الشروع في بناء البلد بعد ذلك. البراغماتية، بخلاف ما تنص عليه التربية الأيديولوجية الصارمة، هي خصلة مطلوبة في الممارسة السياسية، لكن التعويل على صاحبها لا يكفي، فهو كما نعلم محكوم أيضاً بنشأة أيديولوجية، وبأتباع لن يكونوا راضين عن الشطط البراغماتي.
أن يكون الشرع مستفرداً بالقرار، فهذا ما سيصعّب عليه المضي في البراغماتية أمام أنصاره من هيئة تحرير الشام، هؤلاء الذين ينتظرون منه إقامة دولة إسلامية، ولن يفهموا أو يتفهّموا عدم الشروع في بناء الدولة الموعودة. الاختبار يكون أصعب عندما نضيف إليهم أولئك الذين هم خارج الهيئة، وراحوا ينظرون إلى الشرع بوصفه القائد المحرِّر، بل تمادى البعض منهم إلى حدّ طلب الصمت من منتقدي الشرع والقول: كان الأولى بالمنتقدين أن يحرروا البلد من أن ينتقدوا محرِّرها!
ثمة مغالطة هنا على صعيد الفهم أولاً، يُستحسن بالشرع نفسه أن يفنّدها. فالتحرير المشار إليه حدث بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً على الثورة والحرب، دفع فيها السوريون أثماناً باهظة بدءاً من المظاهرات الأولى التي تُسجّل لعموم السوريين ولمجمل نضالاتهم، ما يوجب أن يكونوا شركاء أصيلين في القرار. احتفالات النصر اليوم هي مستحقة ومؤجَّلة منذ شارف الأسد على السقوط، وأسعفه حلفاؤه بالبقاء، قبل أن تسعفه تحالفات دولية. والتحالفات الدولية التي منعت في ما مضى سقوطه أذنت لاحقاً بذلك، وهذا لا ينتقص إطلاقاً مما هو مستحق منذ زمن بعيد، ولا ينتقص بالتأكيد من شجاعة المقاتلين الذين قاموا بعملية التحرير الأخيرة ونبلهم، إلا أن التذكير بالخارج “ودوره في تفادي سيناريو دموي لإسقاط بشار” ضروري جداً كي يتواضع أصحاب الرؤوس الحامية في الداخل.
نعلم أن الإشارة إلى قوى الخارج لها إرث سوري سلبي، من قبل مَن تشرّبوا بإعلام الأسد الذي واظب على ذمّ الخارج، وأيضاً من قبل جمهور الثورة الذي رأى أن الخارج نفسه تآمر عليه. نحن بحاجة ماسة إلى الخروج من هذه العقلية، وإلى إعلان سوريا دولة غير مارقة في ما يخص القوانين الدولية، ويحضر هنا على وجه السرعة القرار 2118 الذي نصّ في أحد بنوده على الالتزام ببيان جنيف، والقرار 2254 المعروف. بالطبع حدثت تطورات تجعل تعديل القرارات ضرورياً، منها أن الأسد لم يعد طرفاً في عملية الانتقال السياسي، ومنها ما يُشاع عن رفع هيئة تحرير الشام من لوائح الإرهاب، إلا أن روحية القرارات نفسها ما زالت صالحة.
إعلان سوريا دولة قانون، تلتزم بالقوانين الدولية، مدخل جيد لكي يدرك أنصار الشرع أنهم لا يستفردون بالحكم، وأن هذا ليس من حقهم، والمطلوب مرحلة انتقالية على قاعدة المشاركة، لا التغلُّب. وللتأكيد؛ هذا يدعم موقف “الشرع”، إذا كان لا يريد الاستئثار بالسلطة. ونفترض أن تنفيذ القرارات الدولية مدخل تلقائي لمشاركة أوسع، تنزع عن الشرع ما هو محاط به من ريبة اليوم على خلفية الخشية من استفراده بالسلطة، وعلى خلفية الغموض الذي يكتنف ما يخطط له. المشاركة هي أيضاً المدخل الأنسب لتبديد الغموض، وتعزيز الشفافية المطلوبة بإلحاح في الفترة الانتقالية.
ورغم أن العديد من القرارات الدولية لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، إلا أننا، ولو على الصعيد المعنوي فحسب، خسرنا فرصة تجريم بشار في محكمة الجنايات الدولية، لأنه لم يوقّع عليها بصفته رئيساً للبلاد، ومن المؤكد أنه عندما لم ينضم إلى الاتفاقية كان مدركاً لعواقبها. ومن نافل القول أن السلطة، المناطة بها مطالبة إسرائيل عبر الهيئات الدولية بالالتزام باتفاقية الهدنة للعام 1974، ينبغي أن تقدّم مثلاً بالالتزام بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، فلا تعطي بتملّصها منها ذريعة كي تتملص إسرائيل أيضاً وتحتفظ بالأراضي التي استولت عليها مؤخراً.
ولأن الداخل السوري منهك حقاً، بسبب التحطيم الذي ناله عموم السوريين في السنوات الأخيرة، فإنه يقع على قوى الخارج جزء من مسؤولية الدفع في اتجاه تنفيذ القرارات الدولية. ومن المعلوم أن الشرع بحاجة إلى القوى الدولية في أمرين شديدي الإلحاح له؛ أولها الاعتراف رسمياً بسلطته، ما يستوجب ثانياً رفعه من لائحة الإرهاب.
يفوّت الخارج الفرصة إذا تعاطى مع الوضع على قاعدة تغليب الاستقرار على استحقاق التغيير الديموقراطي، وقد سبق له أن فعل ذلك عندما تم الترويج لإبقاء الأسد كوصفة للاستقرار. اليوم هناك فرصة حقيقية للإقلاع عن قصر النظر السابق، من خلال قناعة دولية وإقليمية بأن استقرار سوريا على المدى البعيد رهن بنظام تشاركي ديموقراطي. والحديث عن الفرصة السانحة يأخذ طابع الاستعجال، بما أن التطورات الأخيرة كلها حدثت في أيام قليلة لم تُلتقط خلالها الأنفاس.
على نحو أكثر تحديداً، ربما نكون على موعد مفصلي، حيث قد ينعقد اليوم السبت اجتماع العقبة للمجموعة العربية الخاصة بسوريا، تضاف إليها دول عربية أخرى هي قطر والإمارات والبحرين، فضلاً عن اجتماعات ستُعقد مع وزيري خارجية الولايات المتحدة وتركيا، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي والمبعوث الأممي حول سوريا. السوريون بحاجة ماسة لدعم متعدد المستويات من المجتمعين، في مقدمها الدعم السياسي والاقتصادي. من بين أوجه الدعم المطلوبة أن يُحمى السوريون من الحاكم الحالي، وذلك بأن يُحمى هو نفسه من احتكار السلطة.