تحيل معظم شعارات الثورة السورية إبان انطلاقتها في آذار 2011 إلى معين قيمي يستمدّ فحواه من محدّدات حقوقية وأخلاقية واجتماعية، وغالباً ما استبطنت تلك الشعارات بعفويتها وانسيابيتها في هتافات المتظاهرين مطالب جوهرية للمواطنين، فالقول: ( الشعب السوري واحد) – يحيل إلى مفهوم القدرة على التعايش والإعلاء من شأن الترابط الإنساني والاجتماعي باعتباره يرقى بل ينبغي أن يتجاوز المحدّدات العرقية أو الدينية، والقول: سوريا لينا وما هي لبيت الأسد، ما في للأبد عاشت سوريا ويسقط الأسد) لعلها جسّدت مواقف السوريين الرامية إلى انتزاع الدولة السورية من قبضة الفرد الحاكم وإعادتها إلى عموم الشعب، ومن امتدادات ذلك أيضاً رفض الحكم المطلق غير المقيد بدستور وقوانين تؤطّر صلاحيات الحاكم وتحول دون نزعته بتحويل البلاد إلى عقار تعود ملكيته للحاكم، أضف إلى ذلك مزيداً من الشعارات التي تحيل إلى حرية الأفراد وصون كراماتهم والحيلولة دون إذلالهم (الموت ولا المذلة) مثالاً.
الشعارات العرجاء
لعل الذي ثبت في السنوات الثلاث الأولى للثورة أن تلك الشعارات التي انبثقت من منظومة قيمية ثورية لم تمتلك مقوّماتها الواقعية على مستوى السلوك، وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى تعبيرات نمطية فاقدة التأثير حتى على المستوى النفسي لدى عموم الناس، ليس لعلّة أو خلل في بواعثها الأخلاقية، بل لافتقارها للحوامل الفعلية على الأرض، ما أفقدها كثيراً من زخمها وصدقيّتها الأخلاقية، ويعود ذلك لجملة من الأسباب، لعل أبرزها اثنان:
1 – الحراك العسكري غير المنضبط الذي مهّد لتأسيس شروخات كبيرة في نشاط الفصائل العسكرية، سواء من جهة الفوضى والكم الهائل من تعدد الفصائل، أو من جهة استغلال التشكيلات العسكرية لممارسة أعمال شائنة بحق المواطنين، أو من جهة أن تلك الفصائل والتشكيلات تحوّلت إلى مجرّد أدوات للجهات الممولة ذات الأجندات غير الوطنية. أضف إلى ذلك اقتحام الجماعات العسكرية ذات الإيديولوجيا المتطرفة والتي استطاعت – بفعل ما تملكه من قوة المال والسلاح والشحن العقدي – أن تُفرغ النشاط الثوري من محتواه الوطني التحرري، وتفرض تصوراتها ورؤاها العابرة للأوطان ولقضايا الناس الحياتية بآن معاً، وبهذا بات العمل العسكري في مشهد الثورة مدخلاً بل مُؤسّساً للخراب في نظر الكثيرين، ليس لكونه عملاً عسكرياً يسعى إلى مواجهة السلطة بالعنف، بل لكونه بات خاذلاً للرؤى والتطلعات التي عبّرت عنها شعارات الثورة، كما بات موسوماً بالتبعية للخارج ومدخلاً لزوال القرار الوطني من أيدي أصحاب القضية إلى أيدي المستثمر الخارجي.
2 – أمّا على المستوى السياسي فيمكن الإشارة إلى ركون معظم الطبقات والجماعات السياسية إلى يقين مؤدّاه أن الفاعل الحقيقي في التخلص من النظام الحاكم هو العامل الدولي، الأمر الذي جعل من العمل الوطني عبارةً عن رهان على مواقف الدول، بل ربما أضحى لدى بعضهم ضرباً من السياحة والتسوّل على أعتاب مسؤولي الدول والسفارات، وبهذا يلتقي العسكر مع الساسة في أن كليهما بات فاقداً لحوامله الوطنية المحلّية ومعوّلاً على المستثمر الخارجي.
التفوّق الأخلاقي على الخصم
أثارت معركة ( ردع العدوان) إبان انطلاقتها في السابع والعشرين من الشهر الفائت تحفظات لدى العديد من السوريين، وذلك بفعل ما تراكم من انطباعات عن إرث سيئ للسلوك الفصائلي العسكري على العموم من جهة، ولكون الفصائل التي تصدّرت قيادة المعركة هي في الوقت ذاته تنتمي إلى المعين الإيديولوجي الذي لا يكاد يبتعد كثيراً عن الجماعات التي وُسِمت بالتطرف والإرهاب من جهة أخرى، إلّا أن سيرورة المعركة أظهرت تحوّلات نوعية لدى تلك الفصائل، إنْ على مستوى الخطاب السياسي الذي غابت عنه الإيديولوجيا وبدا أكثر استناداً إلى محدّدات وبواعث وطنية، بدءًا من اسم المعركة ( ردع العدوان) ولم يحمل اسم ( الغزوة الفلانية أو اسماً لأحد الصحابة كما هو معتاد سابقاً) ومروراً بطبيعة الهدف من تلك المعركة، إذ يؤكد المقاتلون أن هدفهم إزالة نظام الاستبداد، لأنه ظالم، وليس لأنه كافر كما هو حال الجماعات الجهادية الأخرى، ولعل هذا التحوّل في الخطاب السياسي يجسّد تحوّلاً في الوعي يعبر عن رغبة أو نزوع لتلك الفصائل ذات المرجعية الدينية، بالخروج من الحالة الإيديولوجية العائمة العابرة للجغرافيا والمستندة إلى المعطى التاريخي، إلى الحالة الوطنية التي تستلهم الواقع كمنهج للنمو والتطور بدلاً من التحليق في فضاءات الماضي والتغذّي من معين الإيديولوجيا، ولعل ما يعزّز تلك التحولات هو السلوك الملازم للخطاب، والذي يجسّد – حتى الوقت الراهن – تناغماً مقبولاً من شأنه أن يحوز جانباً كبيراً من الصدقيّة لدى أصحاب الريبة، ولعله من الصحيح أن تلك الفصائل لم تتنكر لمرجعياتها الدينية، فهي حين تؤكّد لمقاتليها أنْ لا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا تقطعوا شجراً، ولا تقاتلوا من لا يرفع السلاح في وجوهكم، وأحسنوا معاملة الأسير، فلعلها تستلهم كل ذلك من منظومة دينية تتمثل بأحاديث نبوية وآيات من النص القرآني، ولكن تلك القيم تتماهى بالمطلق مع قيم كونية عامة، وهذا يحيلنا بكل تأكيد إلى أن استلهام الدين من خلال أبعاده الإنسانية هو أكثر قبولاً، بل ربما أجدى نفعاً في حياة الناس من منهج التصدير الإيديولوجي القسري.
لعله من الصحيح أن هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها في معركة (ردع العدوان) استطاعت أن تجسّد قدرة تنظيمية متميّزة فيما يخص تنظيم الصفوف والانضباط المسلكي في القتال والبراعة في إدارة المعركة، ولكن قبل هذا كله استطاعت أيضاً أن تجسّد تفوّقاً أخلاقياً على الخصم، فاكتسبت ثقة المواطنين وبدّدت مخاوفهم وارتيابهم المتراكم والمُستمَد من التجارب والتصورات السابقة.
وسواءٌ أكان هذا التحوّل ناتجاً بفعل الوعي المتجدد التي أفرزته ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة، أم كان منهجاً قائماً على نزعة براغماتية هدفها حيازة رضى الجمهور، فالنتيجة واحدة ولا تتأثر بدوافع الفعل، طالما أن الجهة المنتفعة أو المستفيدة هي المواطن، ولعل اتخاذ خدمة المواطن سبيلاً إلى الترويج لهو أمر طالما سعت إليه واتبعته أكثر الدول ديمقراطيةً وتطوراً، ولمَ لا؟ بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
هذا التفوّق الأخلاقي والذي لم يكن بدعة طارئة في طور الثورات على العموم، قد افتقدته مجمل الفصائل العسكرية في الطور الأول من الثورة، سواء منها الدينية أو ممن تندرج تحت مسمى (الجيش الحر) إذ هتفت كثيراً: يسقط الأسد، ولكنها في الوقت ذاته لم تستطع أن تنجو من السقوط في أعين المواطنين بسبب عدم قدرتها على تجاوز خصمها قيمياً وإنسانياً، ما أدى إلى تقلص حضورها القيمي والحسي لدى حاضنتها الثورية، في حين أن معركة (ردع العدوان) ربما كان تفوقها الأخلاقي على قوات الأسد عاملاً معزّزاً لقوتها المادية على الأرض، بل ربما جسّد التفوق الأخلاقي في جانب منه تفوقاً للحياة على الموت، فكانت النتيجة: عاشت سوريا وسقط الأسد.