* محمد م. الارناؤوط
تتمتع القدس بجاذبية كبيرة بين أتباع الديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية)، ولذلك كُتب ويكتب الكثير عنها، وخصوصا باللغات العربية والإنكليزية والعبرية. غير أن ليس كلّ ما يُنشر عن هذه المدينة يحمل إضافة جديدة، وبخاصة الإصدارات العربية، حيث نجد أن طابع الاجترار والانفعال فيها يطغى على حساب البحث عما هو جديد وموضوعي.
وبناء على هذا، يستحق المجلد الذي صدر هذا العام بعنوان “صور القدس المبكرة في الوثائق العثمانية” عن “مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية” (إرسيكا) في اسطنبول، وقفة خاصة، نظرا لما يحمله من جديد. وفي الواقع، يشكل هذا المجلد جزءاً من مشروع كبير سيمتدّ سنوات عديدة إلى أن يتوج بصدور المجلد الثامن، وهو ما يحتاج إلى ميزانية كبيرة أخذاً بعين الاعتبار فريق العمل وطبيعة المادة العلمية والورق المناسب للوثائق المنشورة وغيرها. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى حجم المادة الموجودة عن القدس في الأرشيف العثماني، حيث إن الأمر يتعلق بدولة حكمت المنطقة 400 عام، وحرصت على تسجيل كل صغيرة وكبيرة في سجلاتها، حتى أن التقديرات تتحدث عن أكثر من مئة مليون وثيقة في الأرشيف العثماني. ولكن الأرشيف العثماني يتضمن مصادر مختلفة (الفرمانات السلطانية، ودفاتر التحرير، ودفاتر المهمة وغيرها)، وتعتبر “دفاتر المهمة” أهم ما هو موجود في الأرشيف العثماني، لدرجة أن المشروع الجديد عن القدس يقتصر عليها كما هو واضح في الغلاف. ومن هنا، لابد من توضيح ماهية “دفاتر المهمة” حتى نقدّر أهمية الوثائق الواردة في هذا المجلد والمجلدات الأخرى التي ستلحق به.
لطالما ترأس الهرم العثماني “السلطان” مهام رئاسة الديوان الذي كان يعقد وبشكل يومي في قاعة خاصة بقصر “طوب قابي”، إلى أن جاء السلطان محمد الفاتح وتخلى عن هذه المهمة للصدر الأعظم لما كان يحتاج له الأمر من وقت طويل على مدار الأسبوع. وفي هذا الديوان كانت تناقش أمور الدولة كما تستعرض الشكاوى من كافة أرجاء الدولة العثمانية، وبذلك شكل الديوان من ناحية بمثابة حكومة، ومن ناحية أخرى بمثابة محكمة عليا، لأن الأصل أن تتولى المحاكم في الولايات النظر في الشكاوى، إلا أن بعض المشتكين لم ينالوا حقوقهم من خلال المحاكم في الولايات، لذا كانوا يتوجهون بشكواهم إلى الديوان السلطاني الذي ينظر فيها، ويصدر الأحكام باسم السلطان التي تُحفظ فيما عرف باسم “دفاتر المهمة”.
ولدينا أقدم دفترين (الأول عن فترة 1544-1545، والثاني عن فترة 1552) في أرشيف متحف “طوب قابي”. على حين أنه لدينا 267 دفتراً في الأرشيف التابع لرئاسة الوزراء وهي تغطي الفترة مابين 1553-1905. وفي الواقع، تعتبر هذه الدفاتر كنزاً للباحثين لأنها تغطي الجوانب الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية للولايات العثمانية، لكن الاستفادة منها كانت محدودة جداً من قبل الباحثين العرب بحكم الحاجز اللغوي أو تقاعس الباحثين العرب عن تعلم العثمانية والولوج بها إلى هذا الكنز.
ومع هذا، انتبه إلى أهمية “دفاتر المهمة” الباحث الاسرائيلي إريل هيد U.Heyd واستفاد منها في كتابه “وثائق عثمانية عن فلسطين 1552-1615″ الذي نشره في الإنكليزية عام 1960. أما في اللغة العربية فقد برز لاحقا فاضل بيات الذي أصبح اسمه يرتبط بـ”دفاتر المهمة” بعد نشره لسبعة مجلدات في مشروعين كبيرين: “بلاد الشام في الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة” 1-3، عمان 2005-2007، و”البلاد العربية في الوثائق العثمانية” 1-4، استطنبول 2010-2015. ومن الطبيعي أن تشمل هذه المجلدات السبعة فلسطين.
وكتقدير من “مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية”(إرسيكا)، التابع لمنظمة التعاون الإسلامي والممول من الدول الأعضاء، لمكانة القدس عند العرب والمسلمين، بدأ المركز بمشروع كبير يغطي تاريخ القدس خلال الحكم العثماني بالاستناد إلى “دفاتر المهمة”، وهو ما يحتاج إلى سنوات طويلة من العمل وإلى فريق كبير من الباحثين العارفين بالأرشيف العثماني. ومن هؤلاء الباحثين أنجز مراد أولو سقان، ويوكسيل جليك، وداود هوك، وجنكيز طومار المجلد الأول الذي يحتوي على 215 حكما سلطانيا يوضح الأوضاع الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت في القدس خلال القرن الأول من الحكم العثماني.
وهنا يفرض السؤال نفسه: كيف كانت صورة القدس في القرن الأول للحكم العثماني بالاستناد إلى الوثائق العثمانية نفسها؟
يكاد القرن الأول للحكم العثماني في القدس أن يكون قرن السلطان سليمان القانوني (1520-1566) وزوجته المحبوبة “خاصكي سلطان” روكسلانة أو خُرّم شاه، حيث اهتم كلاهما بعمران القدس وتركا إرثا من المنشآت العمرانية، وهو ما يميز “القدس العثمانية” حتى الآن. ومن ذلك، السور الذي يحيط بالقدس القديمة وبواباته، وترميم قبة الصخرة، ومد شبكة المياه، وتكية “خاصكي سلطان” التي تقدم الوجبات اليومية للمحتاجين والتي لا تزال تقوم بعملها حتى اليوم، وغير ذلك من الترميمات والإصلاحات.
ولكن صورة مجتمع القدس (الطبقة الحاكمة والقضاة والرعية) من خلال هذه الوثائق العثمانية “دفاتر المهمة” تبدو واقعية بقدر ما تعبر عن المشاكل التي تواجدت وقتها. فالأصل في الديوان السلطاني أنه يجتمع للنظر في شكاوى الرعية من تجاوزات الولاة واختلاسات المسؤولين، ولامبالاة القضاة بحل مشاكل الرعية. ومن هنا، تستعرض الأحكام السلطانية الموجودة في “دفاتر المهمة” المشاكل الموجودة من خلال الشكاوى الواردة وتطلب التحقيق فيها، ثم تصدر الأحكام القاطعة أو الرادعة. ولذلك فإن الصورة هنا مركبة أو مزدوجة: فبقدر ما تعطي “دفاتر المهمة” صورة سلبية عن الحكم العثماني الجديد من خلال الشكاوى المرفوعة للسلطان، نراها، بذات الوقت، تعكس صورة إيجابية عن وجود جهة عليا “الديوان السلطاني” تهتم بهذه الشكاوى وتصدر الأحكام الرادعة بحق المسيئين للرعية أو للمال العام. ولكن هذا الأمر يختلف من وقت إلى آخر، حيث إن المجلد الأول يستعرض فترة حكم السلاطين الأقوياء الذين وصلت بهم الدولة العثمانية إلى الذروة، على حين أنه لابد أن ننتظر صدور المجلدات الأخرى التي تغطي فترة الضعف والانحدار لنقارنها مع المجلد الأول.
وهكذا نرى في هذه الوثائق الكثير من حالات الاختلاس، وخاصة في الأوقاف التي أُنشئت لمساعدة المحتاجين، ومن ذلك، اتهام نائب ناظر أوقاف “خليل الرحمن” بسرقة القمح من مخزن الأوقاف. واتهام وكيل متولي وقف المدرسة التازية في القدس بالفساد و”الأمر بتدقيق حساباته وعزله في حال ثبوت تورطه بالفساد”. وعزل قاضي القدس جار الله “بسبب ماقام به من فساد وإجراء التحقيق معه وإبلاغ المركز بنتيجة التحقيق”. كما ولدينا شكوى ضد قاضي القدس اللاحق واتهامه بالتجاوز على المواد العائدة للأوقاف والأهالي، وبنائه دارا له بتلك المواد.
ومن ناحية أخرى، لدينا ما يتعلق بالحياة الاجتماعية في القدس. ففي ذلك القرن برزت المقاهي في بلاد الشام، وتأسّست أولى المقاهي في القدس في بداية النصف الثاني للقرن السادس عشر. ونظراً لأن بعض أصحاب هذه المقاهي أدخلوا فيها الموسيقى والأغاني، اشتكى سكان المحلات مما تحدثه هذه المقاهي من تأثير في نفوس الرجال وتلهيهم عن واجباتهم الدينية، ولذلك رفعوا شكوى إلى السلطان طالبوه فيها بإغلاق المقاهي. وبالفعل أصدر السلطان حكما في عام 1565 يفيد بأنه أُبلغ عن تحول هذه المقاهي إلى “مراتع الفساد”، ولذلك أمر بـ”إغلاقها حالا وإبلاغ المركز بأسماء المخالفين للأمر”.
كذلك الأمر بخصوص شرب الخمر في القدس نظراً لوجود المسيحيين فيها. فقد وردت شكوى إلى السلطان بأن “بعض الأشخاص يقومون بجلب الخمر إلى القدس وبيعه هناك رغم المنع”، ولذلك أمر السلطان “بإجراء اللازم بشأن منع بيع وشرب الخمر في هذه المدينة المقدسة وإبلاغ المركز بأسماء المخالفين”.
ويقود هذا إلى حضور المسيحيين واليهود في القدس آنذاك. فبالإضافة إلى الزوار الذين يأتون للحج لزيارة الأماكن المقدسة، تكشف الوثائق عن الشكاوى التي تفيد باستغلالهم من قبل الموظفين العثمانيين. فمن أصل 1552 شكوى، نقرأ واحدة ضد ابن قاضي القدس بأنه “يأخذ أجورا من الزوار القادمين لزيارة كنيسة القيامة دونما وجه حق، وقيام بعض الموظفين بفرض أجور غير نظامية على أهل الذمة”، وعلى هذا صدر الأمر السلطاني بـ “التقصي عن هذه الادعاءات والحيلولة دونما القيام بعمل مخالف للقانون”. كذلك لدينا شكوى من قيام الموظفين العثمانيين بـ “اختلاق العقبات أمام طائفة اليهود القادمين لزيارة القدس واغتصابهم”، فنرى مجددا صدور الأمر السلطاني بـ “التحقيق في ذلك والحيلولة دون قيامهم بهذه الممارسات وإبلاغ المركز بأسماء من لا يتقيد بذلك”.
وهكذا يحتوي هذا المجلد على 215 وثيقة معظمها ينشر لأول مرة، وهي تعطي بالإجمال صورة مركبة أو مزدوجة يمكن أن تُقرأ بشكل مختلف لدى الطرفين المعنيين بالدولة العثمانية: الطرف المشكّك في الحكم العثماني يراها صورة سلبية نظرا لمظاهر الفساد الكثيرة التي بدت في كل المجالات، بينما الطرف المتعاطف مع الحكم العثماني يراها ايجابية لأن قضايا الفساد وصلت في نهاية الأمر إلى السلطان الذي تدخل للتحقيق فيها وعقاب من يثبت تورطه بها.
ومع كل الجهود القيمة التي قامت بها “إرسيكا”، يبقى السؤال، بماذا يفيد هذا المشروع الكبير الباحثين العرب الذين لا يعرفون اللغة العثمانية؟
يلاحظ هنا أن الجهة الناشرة حرصت على نشر الوثائق العثمانية الأصلية بالألوان في حيز احتل حوالي نصف الكتاب (ص 235-362)، ثم نشرت هذه الوثائق باللغة التركية الحديثة مع موجز قصير عن كل وثيقة بالإنكليزية والعربية. وبهذا الشكل فإن هذا المشروع المكلف يفيد في الدرجة الأولى الباحثين الأتراك أو الباحثين الذين يعرفون اللغة التركية، لذلك يبقى الأمل بأن توضع الوثائق العثمانية في قرص مضغوط ملحق بالكتاب مع ترجمة عربية حتى يكون هذا المشروع مفيداً للباحثين العرب الذين تعنيهم القدس بطبيعة الحال.
* نقلاً عن موقع: “ضفة ثالثة”
عذراً التعليقات مغلقة