هي مفاجأة من العيار الثقيل جداً، وبكل المعايير، فجرتها الفصائل التي استولت أولاً على مواقع لقوات الأسد في ريف إدلب وريف حلب الغربي. المفاجأة حدثت مع بدء الهجوم، ثم مع الانهيار السريع لمواقع الأسد، وأخيراً مع توالي الانهيار لأيام، ما سمح للفصائل المهاجمة بالوصول إلى مدينة حلب في وقت قياسي. بل لم يعد من المبالغة القول إننا لا نستطيع وضع معلومات دقيقة عن خرائط الميدان، فما يكون صحيحاً وقت الكتابة قد لا يكون كذلك بعد دقائق!
المثير للتعجب أيضاً أن حليفي الأسد لم يُظهرا سرعة في امتصاص هجوم الفصائل، إذ كان الهجوم قد باغتهما ولو من حيث تجاوزه الحدود “المقبولة” للمفاجأة. فالطيران الروسي لم ينفّذ غارات على مواقع المهاجمين، ولو بوتيرة متوسطة لا تقارب القصف شبه المتواصل الذي قام به الطيران نفسه، ضد الفصائل المهاجمة ذاتها، قبل نحو خمس سنوات عندما قضت تفاهمات آستانة بطردها من حلب ومحيطها.
ورغم كل ما يُقال عن أن الميليشيات الإيرانية هي حالياً في أسوأ أحوالها، وعن كونها في وضع معنوي شبه منهار على خلفية الخسائر في لبنان، فهذه الأقاويل غير كافية نظرياً لتبرير الخسائر السريعة التي منيت بها الميليشيات. وإذا أخذنا العامل المعنوي معكوساً، فمن المفترض أن تسعى الميليشيات، ومن خلفها طهران، إلى إثبات قوتها في وقتها العصيب هذا تحديداً، لأن التضحية بهيبتها الآن قد يكون لها أثر على مجمل النفوذ الإيراني في سوريا.
الأكيد، وفقاً لمجريات الميدان، أن الفصائل المهاجمة تحظى بغطاء خارجي؛ أولاً من حيث المعطيات المباشرة، فالتقدم السريع لا يُعزى فقط إلى تدهور أوضاع قوات الأسد وشجاعة المهاجمين، بل لا بد أن يكون لدى الأخيرين معطيات استخباراتية كافية عن المواقع والتحصينات. ثم إن معركة بهذا الحجم، والاستمرار في التقدم، يُفترض أنهما يستندان إلى خط إمدادات كافٍ، بما في ذلك تعويض الذخائر والأسلحة، وسيكون من الاستخفاف والخفة الظنّ بأن ذلك كله متوفر في مخازن الفصائل القريبة، وبما يكفي للمعركة وتداعياتها المحتملة.
الصمت التركي لم يدم طويلاً، إذ أعلنت أنقرة مباركةً غير مباشرة للعملية، من خلال القول إن هدفها استرداد مناطق استولت عليها قوات الأسد، وهي ليست من حصتها بموجب ترتيبات أستانة. وموقف أنقرة يتوّج غضباً من الأسد الذي لم يقابل الانفتاح التركي نحوه بالإيجابية المطلوبة، وكان التعبير عن ذلك واضحاً بانسحاب أردوغان من جلسة مؤتمر القمة العربية-الإسلامية الطارئة، التي استضافتها السعودية في الثاني عشر من هذا الشهر، مقاطعاً كلمة بشار الأسد. ثم، قبل أسبوع من الآن، أدلى وزير خارجيته هاكان فيدان ما يُعدّ أقوى تصريح له في هذا الخصوص. إذ قال أمام البرلمان التركي إن الأسد لا يريد السلام في سوريا.
في غياب معلومات دقيقة، لن يكون من الشطط ربط الهجوم الحالي بتحولات الموقف التركي، من مطالبة الأسد بخطوات محددة إلى اليأس منه ومعاودة الضغط عليه بالأسلوب القديم الذي كان يُظن أنه لم يعد وارداً. ولن يكون شططاً غير مقبول أيضاً ملاحظة توقيت العملية، ربطاً بانتخاب دونالد ترامب، المفضَّل لدى أردوغان على الخصم الديموقراطي، ولا يُستبعد أن يكون قد أعطى الإذن لصديقه ليفعلها الآن، بما أنه يفضّل دخول البيت الأبيض بعيداً عن الإزعاج الذي تتسبب به الحروب. بالطبع، لن يكون الصمت الأميركي فقط على سبيل المحاباة لأردوغان، فهو مدفوع أولاً بالرغبة في قطع طريق الميليشيات الإيرانية المتصل؛ بدءاً من الحدود السورية مع العراق وصولاً إلى الحدود مع لبنان.
ولعل الموقف الأميركي، وربطه باتفاق وقف إطلاق النار في لبنان وقطع طريق إمدادات الحزب، هما ما يفسّر التهاون الروسي، حيث اقتصر أعلى موقف رسمي حتى اليوم الثالث على دعوة الأسد إلى إعادة فرض النظام في المناطق التي خسرها، وكأنّه قادر على فعل ذلك بقواه الذاتية. بينما، على الأرض، تم تناقل خبر انسحاب القوات الروسية من بلدة تل رفعت، ما قد يعني تركها لسيطرة فصائل معارضة تتمركز في ريف حلب الشمالي. وأهمية هذا التطور هي في أن السيطرة على تل رفعت تكمل تقريباً الطوق حول الميليشيات الإيرانية المتمركزة في نُبّل والزهراء، بعد وصول الفصائل المهاجمة من جهة الغرب إلى تخومهما.
وسط هذه التطورات المتسارعة سيكون من الصعب التنبؤ بمآلاتها، أو حتى مساراتها. لكن، قياساً على التجارب السورية السابقة، يمكن الجزم بأن أية مغامرة داخلية “غير مغطاة خارجياً” ستبوء بالفشل، وسيكون ثمنها باهظاً جداً من الدماء والدمار. وهذه واحدة من الخلاصات المغايرة تماماً لانتقادات بعض المعارضين على المعركة الجديدة، انطلاقاً من أنها غير نابعة من قرار وطني معارض مستقل! وإذا كان الوصول إلى قرار وطني مستقل “يوماً ما” بمثابة مطلب، أو طموح مؤجل، فهذا لا يصحّ على اتخاذ قرار المعركة كما يحدث الآن، ولا يصحّ أصلاً مع نمط من العسكرة يشابه نمط الجيوش التقليدي، ويتطلب دعماً خارجياً لا بد أن يشارك في القرار إذا لم يصادر معظمه أو كله.
الخلاصة السابقة هي أيضاً برسم معارضين استعادوا مع المعركة الجديدة شعارات قديمة عن الثورة والثوار، وإذا كان بعضها يصحّ على مقاتلين صغار إلا أن قيادات الفصائل لا تتصرف بوحي من تلك الشعارات. ومن المفهوم أن استخدام تعبير “الفصائل” بعموميته له دور التغطية على تجمع مكوّن بشكل أساسي من هيئة تحرير الشام، النصرة سابقاً، والغاية من التغطية هي التنصّل مما تمثّله النصرة في أذهان نسبة كبيرة من السوريين، بمن فيهم أولئك الذين تحت حكم الجولاني في إدلب وانتفضوا عليه قبل شهور قليلة ليس إلا. ولا يدخل في باب الطرافة فحسب أننا نجد تحويراً مماثلاً للتسمية في إعلام الأسد، فالأخير دأب على تسمية مقاتلي حزب الله بـ”المقاومة الوطنية اللبنانية”!
في كل الأحوال، من المؤكد أن الجولاني هو الرابح الأكبر حتى الآن. فهو الرابح إذا كان قد حقق هذه الإنجازات بقرار مستقل وإمكانيات ذاتية، ولا ينتقص منه أن يكون على العكس تماماً قد تصرف بموجب إرادة إقليمية ودولية، فهذا يعني أنه كان مؤتمناً على الإعداد للعملية وتنفيذها من دون باقي الفصائل التي لا تتمتع بانضباط وجهوزية يوثق بهما. لقد ربح الجولاني على حساب الأسد، إلا أنه ربح من طرف خفي على خصوم للأسد أيضاً، وهذا ما يجب التفكير فيه مليّاً إذا كان لهذه المعركة مفعول مستدام يتعدّى ما يحدث في الميدان.