قيل الكثير، خلال السنة الأخيرة، عن نأي بشار الأسد بنفسه عمّا يحدث في غزة. انكفاؤه كان يُقارن دائماً بشعارات الممانعة التي عاشت عليها سلطته، وسلطة أبيه أولاً، وهي مقارنة لا تلحظ أنه اتخذ الموقف الذي يحظى بتأييد صامت من الخاضعين لسيطرته. بل ربما يكون هذا هو الموقف الأكثر شعبية له بين مؤيديه من بين هؤلاء وبين الناقمين عليه. إذ لا يودّ الجميع الدخول في مواجهة مع إسرائيل تفاقِم الدمار السوري، ويكفيهم الرعب الذي تتسبب به الغارات الإسرائيلية على مواقع لإيران وحزب الله في سوريا.
من جهة تعليقات المعارضين على انكفاء الأسد، فإنها تنصبّ على كشف زيف شعاراته أولاً، والسخرية منه ما أمكن بناءً على ذلك. ثم ينصرف قسم لا بأس به منها إلى التحسّر، العلني أو المضمر، على حال سوريا في عهده التي وصلت إلى درك غير مسبوق من الضعف، بحيث تُنتهك أراضيها بالغارات الإسرائيلية بعد التدخل الإيراني لصالح الأسد. وفق ما هو دارج لدى المعارضين أيضاً، هذا لا يليق بمكانة سوريا وإرثها الذي بدّده الأسد، متضمناً إرث أبيه العابر للحدود!
بالطبع، تتحاشى تعليقات المعارضين التمعّن في الإشارة الأخيرة إلى إرث الأب، أو حتى التوقف عنده، رغم أنه إلى حد كبير ينطوي على أقوى مكانة لسوريا المعاصرة، وقد تحققت له من خلال حدثين كبيرين، هما المشاركة مع مصر في حرب تشرين ثم دخول قواته إلى لبنان. في الثاني منهما حصد الأسد نتائج الخط الذي فُتح مع واشنطن بفضل حرب 1973، ومن خلال الوصاية على لبنان (وفقط من خلالها) صارت لسوريا التي اختزلها بشخصه مكانةٌ إقليمية، وأوضح دليل على الأخيرة أن دمشق صارت ركناً من أركان النظام العربي إلى جانب القاهرة والرياض.
من المعلوم أن العهد الأول للاستقلال شهد العديد من الانقلابات، والاختلاف بين النخب السورية حول التوجّه إلى العراق أو إلى مصر، قبل أن يحسمه النفوذ البعثي الصاعد لصالح الوحدة المصرية. أي أن سوريا الناشئة حديثاً كانت تتوسّل القوة من خارجها، بعدما لم تعد نسختها المستحدثة قوية بذاتها. فشلت تجربة الوحدة، وأعقبتها سنتان فقط مما يمكن تسميته بعهد مُكْتفٍ لا يتطلّع إلى الخارج، ليأتي انقلاب البعث بشعاراته القومية المعروفة، وصولاً إلى انقلاب الأسد الذي حصل على قسط من الشرعية الشعبية في حرب 1973، ليبدّدها بدخوله إلى لبنان، والأحرى أن النفوذ الإقليمي جعله يستغني عن السعي لكسب الداخل، وراح يستقوي بمكانته الخارجية على الداخل السوري.
ما يستحق التفكير، أن السوريين دفعوا ثمن الوحدة مع مصر تهميشاً وضعفاً، فوق الضعف الذي دفع البعض منهم إلى طلب الوحدة. وأنهم أيضاً دفعوا ثمن المكانة الإقليمية التي حصّلها الأسد الأب باستغلال الحرب الأهلية اللبنانية، لأن المكانة الجديدة انعكست تهميشاً للسوريين، فضلاً عن تهميش اللبنانيين وإضعافهم. في المحصلة، لم يأتِ الاستقواء بمصر بالنتيجة المأمولة نظرياً، ولم تأتِ القوة الإقليمية (بالسيطرة على لبنان) بما هو منتظر منها لناحية رفع السوريين وسوريا إلى مكانة أفضل.
التذكير بالثمن الفادح لعهدَي الاستقواء لا يهدف إلى امتداح حالة الضعف والركاكة التي وصلت إليها سوريا بنهج الوريث، وإنما يرمي إلى تفحّص المقولات الشائعة التي تجعل من قوة سوريا في مقام البديهيات، أو كأن ذلك مكتوب في تكوينها. ولعل الأقرب إلى الدقة أن الأسد الأب ساهم في تبديد المكانة التي حصل عليها، تحديداً مع تدهور حالته الصحية وإلحاح مشروع التوريث عليه أكثر من أي استحقاق يخص البلد. عند هذا الهاجس حدثت النقلة من الاستقواء على السوريين بالمكانة الإقليمية إلى الاستقواء عليهم بطهران والحزب، أي أن النقلة المُشار إليها غير مقترنة بالثورة بقدر ما كشفت عنها ليس إلا.
لكن السنة الأخيرة كشفت، أكثر مما فعلت الثورة، عن تراجع مكانة الأسد ضمن محور الممانعة، حيث كان تحييده عن الحرب الحالية دلالة على ضعفه الشديد. وبما أنه مسيطر على ما تبقى من الدولة السورية فهذا الضعف يعكس حالها، ويعكس أيضاً حال اللاعبين الخارجيين في الساحة السورية، وقرارهم تحييدها عن الحرب، أي أن أحداً منهم لا يطمع أيضاً في استغلال المناسبة لتحسين موقعه. ولأن الشأن الفلسطيني ليس مثار خلاف وحساسية بين النسبة الأكبر من السوريين، فربما أمكن لهم، على هامش الحرب الحالية، أن يروا ما آل إليه وزن سوريا بواقعية أكثر مما كان يحدث عندما يراها كلّ منهم من خندقه ضمن الصراع السوري.
ضعف سوريا الصادم هو النقيض لصورة سوريا التي يتشارك فيها معظم السوريين، لا لسبب سوى أنهم تربّوا على تلقّيها في المدارس ووسائل الإعلام التي جعلت منها بديهيةً؛ بالتكرار ليس إلا. لقد سلّطت السنة الأخيرة ضوءاً كاشفاً على ما هو موجود من قبل، وفي الأصل لا يستوي أن تكون سوريا قوية وأبناؤها ضعفاء، وهم ليسوا ضعفاء الآن فحسب، بل جرى استضعافهم وسحقهم خلال ما يزيد عن نصف قرن.
في السنة الأخيرة أبدت نسبة ملحوظة من السوريين تمركزاً على الذات، لا بأس في القول أنه يفتقر إلى النضج، فوق افتقاره إلى البعد الوطني لأنه منصرفٌ إلى تبعات الحرب على غزة (ثم لبنان)، ولأنه بلا تأثير يُذكر على الانقسامات الدموية بين السوريين. بمعنى أن التمركز حدث إلى حدّ كبير على صورة سوريا لا على سوريا الواقعية، وهمُّ أصحابه الانعتاق من هموم المحيط في وقت لم تعد فيه سوريا، الضعيفة المدمَّرة، استثناءً ضمن محيطها الجغرافي القريب. وهذه نقطة ضعف إضافية، لأن تعميم الخراب سترتد عواقبه على الجميع. في عمقها تنسجم هذه الظاهرة مع سياق من انقسام السوريين وانغلاق كل جماعة منهم على ذاتها، ومن المؤسف القول أن الانغلاق “المرتجى” على المحيط لا يبشّر إطلاقاً بانفتاح حقيقي فيما بين السوريين.
مع ذلك تبقى الحرب الحالية درساً، مؤلماً بالتأكيد، للتفكير انطلاقاً من الإقرار بضعف سوريا، وبلا أوهام حول كون الضعف طارئاً، أو أنه سيزول تلقائياً متى عادت إلى ما كانت عليه، من دون الأسد حسب ما يتمنى معظم السوريين، بمن فيهم نسبة معتبرة من محكوميه. هذا الإقرار يبدو ضرورياً من أجل التفكير في المستقبل بلا أوهام متعلقة باستعادة مجد بائد، وبلا استسهال للمشقّة الماثلة فيما لو أتيح لهم المضي إلى المستقبل.
عذراً التعليقات مغلقة