لعل أكثر ما يميز فترة حكم عائلة الأسد هو أن كل ما يقوله صاحب القرار الأول في سوريا – أي حافظ الأسد أولاً ثم ابنه من بعده – ليس له أي معنى على الإطلاق، وأنه مجرد سفسطة وكذب لا علاقة له بالواقع، بعبارة أخرى وببساطة شديدة، إن كل ما قاله حافظ الأسد وبعده ابنه لم يكن بهدف الفعل، أو التطوير، أو التخطيط، بل كان كذباً صريحاً وخداعاً واضحاً.
وها هو واقع الحال السوري بعد ما يقرب من 55 سنة من حكم هذه العائلة يثبت بجلاء حجم الكذب والخداع الذي مارسه “الأسدان” على الشعب السوري.
لعل أخطر ما قام به حافظ الأسد للوصول إلى ما يريد كان التغييب المتعمد “للوطنية” السورية، هذا التغييب الذي عمل عليه بمنهجية وتخطيط، وكان هدفه الأساسي منه هو ترسيخ حكمه واستدامته. ولم يكن هذا الهدف ليكون ممكناً لو كان الوصول إلى السلطة يتم بشكل شرعي وديمقراطي، أو لو كانت اللعبة الديمقراطية حاضرة في الحياة السياسية في سوريا، لكنه وهو الخبير بكواليس الانقلابات، وهو الذي وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري على رفاقه وداخل حزبه، أيقن أن ما يتوجب عليه فعله فور انقلابه هو تغيير خريطة القوى الفاعلة في الدولة والمجتمع.
كانت الأولوية الأهم لحافظ الأسد في بدايات حكمه هي منع إمكانية الانقلاب العسكري عليه، ومن أجل ذلك ضحى بالجيش وبالدولة والحزب والمجتمع. وبعد نجاحه في ذلك، أصبحت الأولوية الأهم بالنسبة له أيضًا هي التأسيس لإمكانية التوريث. وفي كلتا المرحلتين، كان لا بد لحافظ الأسد من تغيير خريطة المصالح القائمة في المجتمع والاستعاضة عنها بخريطة جديدة يمكنه الإمساك بخيوطها، سواء بالقوة أو بالابتزاز أو باستعمال وسائل أخرى. وبهذه الطريقة، كان يضمن السيطرة على أقوى القوى الفاعلة في الاقتصاد والدين والثقافة والسياسة.
أدرك حافظ الأسد أن السيطرة على هذه المفاصل الأربعة ليست كافية لاستدامة السلطة إذا لم يتم تغييب “الوطنية السورية”، أي تفكيك المجتمع ومن ثم إعادة صياغة تحالفات هذا المجتمع، وطريقة تحقيق مصالحه، وتغيير قواعد علاقاته واتجاهات فعله. وما كان هذا ليتم لولا أنه استطاع خداع فئات واسعة من المجتمع بأن الصيغة الجديدة تضمن مصالحها وتحميها. وساعدته في خديعته هذه مجمل الظروف التي عاشها السوريون خلال حكم حزب “البعث” للمجتمع السوري قبل 1970. فربما كانت تلك الفترة أقل سوءًا من الفترة التي سبقته.
يكمن الفرق الأساسي بين نهجي قيادة “البعث” قبل “حافظ الأسد” وبعده في نقاط عديدة، لكن أهمها هو أن القيادة التي سبقته كان لديها مشروعها للدولة وللمجتمع – لسنا الآن بصدد تقييم هذا المشروع ومدى الارتجال والطوباوية فيه – بينما كان مشروع الأسد يقتصر على هدف شخصي هو سلطته فقط، حتى لو تطلب الأمر تحطيم الدولة والمجتمع.
الكارثة التي تسبب بها نهج حافظ الأسد في تغييب الوطنية السورية لم تتضح تداعياتها كاملة إلا بعد موته، والتي كانت النتيجة الأولى لها هي توريث ابنه من بعده، ثم تتالت التداعيات لتتكشف عن خراب عام يطول المجتمع بكامل أوجهه، الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، وما فعلته الثورة السورية لم يكن أكثر من إزاحة الغطاء عن كل هذا الخراب.
لم يكن حكم حافظ الأسد ليستمر طوال عقود ثلاث لولا أنه استطاع تحطيم الدولة، والإمساك بمؤسسة الجيش والأمن، وتغييب “الوطنية”، وتشكيل جيش آخر خاص تابع له من فئات اجتماعية متنوعة رجال الأعمال، وقادة عسكريين طائفيين، ورجال دين، وسياسيين ومثقفين و… وكان كل هذا يتم على حساب الدولة والمجتمع.
الكارثة التي تسبب بها نهج حافظ الأسد في تغييب الوطنية السورية لم تتضح تداعياتها كاملة إلا بعد موته، والتي كانت النتيجة الأولى لها هي توريث ابنه من بعده، ثم تتالت التداعيات لتتكشف عن خراب عام يطول المجتمع بكامل أوجهه، الاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، وما فعلته الثورة السورية لم يكن أكثر من إزاحة الغطاء عن كل هذا الخراب.
المشكلة التي تواجه السوريين اليوم هي أن من ورث حكم حافظ الأسد ما يزال مقتنعًا أن المنهجية التي انتهجها والده قبله ما تزال صالحة، وأنها قابلة للحياة مرة أخرى عبر ذات الأدوات التي استُعملت سابقًا، متجاهلًا حقيقة أضحت اليوم معروفة لكل السوريين، بمن فيهم أولئك الذين وقفوا على الحياد في زمن الثورة، وأولئك الذين وقفوا ضدها وناصروا السلطة القائمة، وهي أن سوريا اليوم لا تشبه سوريا السابقة، وأن استعمال ذات المنهجية والأدوات هو عبث لا طائل منه.
يتبدى تمسك بشار الأسد بمنهجية والده في كل أحاديثه وخطبه وتصريحاته، ولعله في خطابه الأخير في الدورة التشريعية الرابعة لما يسمى “مجلس الشعب” كرر نفسه كما فعل عشرات المرات، فجاء خطابه كالعادة مجرد افتراضات نظرية وكأنه يكفي أن نتفاصح في توصيف أو ذكر المشكلات والأزمات دون أن يكون هناك أي طرح واضح للحلول أو تنفيذها.
يعرف كل السوريين أن القرارات التنفيذية ليست بيد الحكومة السورية، ولا بيد أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، وهي محصورة بيد القصر الجمهوري، أي بيد بشار الأسد شخصيًا، وبالتالي فإن المشكلة من ألفها إلى يائها إنما ترتبط أولًا وأخيرًا بصيغة العلاقة بين السلطة والدولة، وبمساحة الحرية المتاحة لقوى المجتمع السياسية والاقتصادية كي تعبر عن نفسها وتحمي وجودها. لكن هذه المساحة التي تكبر أو تصغر بقرار من “القصر” لن تكون مساحة حقيقية، ولن تكون إلا مجرد مساحة ملغومة يتهيب أي سوري اقتحامها.
بعيدًا عن كل السفسطة التي كررها بشار الأسد في خطابه الأخير، فإن أهم ما يمكن استنتاجه هو أن سوريا ماضية في طريقها إلى المجهول، وأن الأوضاع التي يعيشها السوريون ستزداد سوءًا
يتجاهل بشار الأسد أنه المسؤول الأول عن الكارثة السورية رغم أنه يمسك بكامل القرار طوال ربع قرن، وهو منذ ربع قرن يستعرض فصاحته وقدرته على الحديث طويلًا دون أن ينتهي سامعه إلى فهم أي شيء، ويتحدث كما لو أنه يقصد بلدًا آخر، أو شعبًا آخر، ولكأن الدول تُبنى بإنشاءات اللغة.
بعيدًا عن كل السفسطة التي كررها بشار الأسد في خطابه الأخير، فإن أهم ما يمكن استنتاجه هو أن سوريا ماضية في طريقها إلى المجهول، وأن الأوضاع التي يعيشها السوريون ستزداد سوءًا، وأن التطرق في حديثه إلى الدعم الحكومي لأساسيات الحياة، ومشكلة التوظيف ومشكلة الاستيعاب الجامعي والطبابة والتعليم وتغيير السياسات و…، لا معنى له في واقع الانهيار الشامل الذي وصلت إليه سوريا إذا لم تنكسر معادلة السلطة القائمة.
و”لأن التاريخ لا ينتهي إلا عندما تسقط الشعوب” كما قال بشار الأسد في خطابه الأخير، فإن الشعب السوري يعرف جيدًا أنه ما من طريق للخروج من هذه الكارثة إلا بطي صفحة بشار الأسد وعائلته من سوريا وإلى الأبد. ويعرف جيدًا أن “أول العمل الجاد الذي يجب فعله” هو اجتثاث عائلة الأسد وعصابتها كمقدمة لا بد منها لطي صفحة منهج كامل من التسلط والقمع ونهب الاقتصاد كرسته هذه العائلة طوال ما يزيد على نصف قرن.
Sorry Comments are closed