هي المصادفة ليس إلا، التي جعلت يوم الأحد الفائت موعداً لخطابَيْ حسن نصرالله وبشار الأسد، وربما كان الثاني منهما سيختار موعداً آخر لو عرف أن أحداث اليوم ستخطف اهتمام المتابعين في المنطقة وخارجها. وكما هو معلوم، كان الصباح الباكر قد حمل أخبار ما سُمّي هجوماً استباقياً إسرائيلياً أحبط ردّ حزب الله على اغتيال القيادي فؤاد شكر، أما رواية الحزب فكانت منافية للرواية الإسرائيلية السابقة، وتُرك لأمينه العام أن يعلن روايته الكاملة في كلمة لم يُعلَن عنها قبل الحدث، الكلمة التي ألقاها مساء اليوم نفسه.
في انتظار كلمة نصرالله، لم يكن متوقعاً أن يحظى باهتمام كبير خطابُ بشار الأسد، في افتتاح الدور التشريعي الجديد لمجلس الشعب الذي انتُخب منتصف الشهر الفائت. وقد عكَسَ التعاطي الإعلامي مع الخطابين، تراتبية الرجلَين ضمن محور الممانعة. ولا يخفى أن لنصرالله مكانة تولّى مسؤولون إيرانيون كبار التصريح بها، من خلال الإشادة به كمقرّب من المرشد الأعلى، بما لا يقلّ عن الحظوة التي كانت لقائد الحرس الثوري السابق قاسم سليماني. ويمكن اختزال تدنّي مكانة الأسد بكونه صار محمياً، ولم يعد شريكاً.
لقد فاخر مسؤولون إيرانيون منذ سنوات، بأن سوريا أصبحت محافظة إيرانية، ولم يعترض الأسد أو أيٌّ من مسؤوليه ولو بلطف على صيغة الوصاية الإيرانية، ولعل مخابرات الأسد كانت سبّاقة في استشراف ما ستؤول إليه الأحوال. ففي السنوات الخمس الأولى من حكم بشار، صار شائعاً أنها تتساهل مع انتقادات المعارضين الموجهة إليه شخصياً، أما نصرالله فهو خط أحمر لا يُسمح لهم بالاقتراب منه.
التمييز السابق بين الشخصين ليست له آثار قطعية مطلقة، ولا يلغي أوجه التشابه الآتية من انضوائهما في المحور ذاته، أو أوجه الشبه التي يقترحها موقع كلّ منهما ربطاً بحدث ما. والتشابه هنا لا يتوقف عند شكليات من نوع أن نصرالله أمضى قرابة الساعة في إلقاء كلمته، بعدما سجّل بشار زمناً مماثلاً في خطابه. فالأهم أن الإثنين يحظيان بمستوى من الترقّب، وهناك حقاً ما هو مُرتقب من تصريحات يُدليان بها، أو لا يدليان بها.
استغرق نصرالله ما يزيد عن عُشْر مدة كلمته في استهلال متخم بالإنشاء، وهو يعلم أن متابعيه يتلهّفون لسماع شيء محدد، وهذه ليست المرة الأولى التي يلوّع فيها قلوب هؤلاء المتحرّقين إلى ما لا يُقال. من بينهم، ثمة كثر من خصومه، وهُم مثابرون على القول أنه يتاجر بالقضية الفلسطينية، وأن دخوله طرفاً في المواجهة الحالية من خلال المناوشات اليومية، اضطراريٌّ، إلا أنه مع كلّ خطاب له، يفاجئهم بأن لا يغادر وضعية “التاجر” التي تنطوي على مهارة في الحساب، بل يتحدث عن قواعد اشتباك محسوبة بدقة وبما يؤكد وجود تفاهم عليها بين طرفيها.
لا يرتكب نصرالله “الخطأ” الذي يخشاه الأقربون الخائفون من دفع الثمن، ويتمنّاه الخصوم الذين يريدون منه التورّط، يُستثنى منهم خصوم غير واثقين تماماً من أنه سيلبّي توقعاتهم! وفي الأصل، من المنطقي ألا يُنتظر منه الإعلان في خطاب عن الحرب، ما لم تكن قد بدأت فعلاً في الميدان. وقبل ذلك كله، كان قد خالف التوقعات المبنية على أنه سيدخل الحرب بمعناها الأوسع مُحرَجاً، إلا أن مخالفته التوقعات منذ بدء تداعيات السابع من أكتوبر، لم تُغلِق بورصتها التي تنتعش مع كل إعلان عن خطاب جديد.
قال نصرالله للجنوبيين أن بإمكانهم العودة إلى منازلهم، وهي إشارة كافية نسبياً لمؤيّديه، لكنها لن تكون كافية بحيث يمرّ الإعلان عن خطاب تالٍ له بلا توقعات تسبقه. أي أن ما حدث طوال الشهور الماضية، سيتكرر، إلى أن تتوقف الحرب على غزة. ولا شك في أنه سيكون مسروراً بالتكرار الذي يعني أن شريحة كبرى ما زالت تنتظر منه تفجيراً للأوضاع، ولو كان رهانها أو خوفها مبنيَين فقط على امتلاكه ترسانة الصواريخ التي يهدد بها.
غير بعيد، في الجغرافيا وغيرها، يستفيد بشار الأسد من مناسبات ظهوره، ولو أنها لم تعد كثيرة. بل إن سيرته لا تغيب عن اهتمام معارضيه حتى عندما يتوارى عن الأنظار، وقد سبقت خطابه الأخير “الذي أتى متأخراً عن موعد كان مقرراً سابقاً”، تكهناتٌ عن وجوده في روسيا، ووصل الشطط ببعض المعارضين إلى القول أنه رهن الإقامة الجبرية هناك، ولا ينقص الحسّ الميلودرامي لدى البعض أن يضيف أن تلك العقوبة هي بإشراف بوتين شخصياً.
هكذا، كان مجرّد ظهور بشار يوم الأحد، بمثابة تكذيب لمعارضيه، وليس معلوماً ما إذا كان هذا في خلفية الإخراج المسرحي للحدث. فالنقل التلفزيوني بدأ برئيس مجلس الشعب الذي رحّب بالحضور، وقال أنهم ينتظرون قدوم الأسد، وفور نطقه بالعبارة انتقلت الكاميرا إلى باب القاعة من الخارج ليظهر بشار بينما يؤدي اثنان من عناصر التشريفات التحية ويفتحان له باب القاعة.
لم يكن منتظراً من بشار أن يقول شيئاً ما في موضوع محدد هذه المرة، ولو تخيّلنا تواطؤاً عاماً على إغفال خطابه، وعدم الإشارة إليه في الإعلام وعلى وسائل التواصل، لما أحدث ذلك أدنى فرق. لكن، بخلاف التجاهل المتخيَّل، نعلم أن فولكلور متابعة خطاباته، وتوقّع أن يأتي بجديد فيها، عمرُه من عمر الثورة عليه. وخطابه الأول كان الأفدح على هذا الصعيد، إذ سبقته توقعات بين المتفائلة وقليلة التشاؤم، فظهر ضاحكاً الضحكة التي تفضح سروره بالمجازر الذي كان شبيحته قد باشروا ارتكابها.
ورغم أن ضحكاته تلك أججت الثورة عليه، فهي لم تُجهز تماماً على التوقعات “المتفائلة”، وهكذا راج القول أنه غير مسؤول عن تلك المجازر، ووجّه أصحابه الاتهام لشقيقه ماهر. أيضاً خرج بشار في خطاب له ليسخر من الأقاويل، وليعلن مسؤوليته الكاملة عمّا يحدث، من دون أن يكتفي بإعلانه ذاك المُصرّون على صورة له مهما تنكّر لها.
منذ آذار 2011 حتى الآن، خرج بشار بالكثير من الخطابات والإطلالات الإعلامية، وكان مفاجئاً حقاً في العديد منها على نحو مضاد لأدنى التوقعات الإيجابية، والتي يمكن اختصارها بأنها مبنية على مزيد من العقلانية التي يُفترض أن يمليها موقعه عليه. هكذا مثلاً، تروج بين الحين والآخر توقعات عن إعادة هيكلة أجهزة المخابرات تلبية لمطالب عربية، أو عن تغيير في التوجهات الاقتصادية مدعوم بمطالب روسية مضادة لتوجّه طهران… إلخ. وبينما يروّج الواقعون تحت سيطرته بعضَ التفاؤل بين الحين والآخر، على سبيل السلوى، يروّج معارضون سيناريوهات فيها مكرٌ مُخترَع غايته إيجاد تبرير منطقي لبقائه في السلطة حتى الآن.
يبدو بمثابة القدر الذي لا فكاك منه أن تحظى خطابات بشار وإطلالاته الإعلامية بالمتابعة، وأن تُحلَّل عباراتٌ قليلة كأنها صيغت بإتقان مغاير لأكوام الإنشاء والتذاكي المكشوف في الباقي منها. من جانبه، سيسهب أيضاً نصرالله في الإنشاء في خطابه المقبل، وسيشكو من ضيق الوقت الذي يحرمه من قول المزيد، كما فعل في خطابه الأخير، ولن يخاطر بخسارة متابعيه “مع تباين مشاربهم” رغم أنه كالمعتاد لن يلبّي توقعاتهم. ربما وجه التململ الوحيد من التكرار أن يخطب الاثنان في اليوم نفسه، فهذا كثير حقاً.
عذراً التعليقات مغلقة