السوريون وسوء تفاهم اسمه الثورة

عمر قدور20 أغسطس 2024آخر تحديث :
السوريون وسوء تفاهم اسمه الثورة

لا تفوت مناسبة من دون أن يستغلها سوريون يفتعلون الضجيج، في منصة فايسبوك أكثر من غيرها، والغاية الأساسية من الضجيج المفتعل هي إشهار الخلاف ضمن فئة كان أفرادها يبدون إلى وقت قريب متقاربين في رؤيتهم لما حدث ويحدث في سوريا، ويظنّون أن التقارب ينسحب على مجمل آرائهم السياسية. المصدر الأساسي لوهم التقارب هو الثورة، فهؤلاء بمعظمهم التقوا وتعارفوا، “افتراضياً على الأغلب”، على خلفية تأييدهم الثورة العام 2011.

لو جرّبنا تمريناً ذهنياً، بموجبه تنتصر الثورة بعد أسابيع من انطلاقها، وتخيّلنا ما هو واقعي عطفاً على انتصارها، لكان من المنطقي جداً أن جمهور الثورة سينفضّ وينقسم، وستنتهي التحالفات التي رافقت الاستثناء المُسمّى ثورةً. لا تحدث الثورات كل يوم لأنها الاستثناء لا القاعدة، ولأنها كذلك أيضاً فهي حدث لا يدوم، بل هي بطبيعتها محدودة زمنياً، سواء انتصرت أو هُزمت. بهذا المعنى، كان لا بدّ لجمهور الثورة السورية أن يتشتت، وذلك ليس من سلبيات الهزيمة التي ربما تظهر في نوعية التعبير عن الخلاف، لا في أحقية وجود الخلاف نفسه.

في أبعد تقدير، انتهت الثورة السورية أواخر العام 2012، حين تغلّب البُعد الخارجي للحرب الدائرة في سوريا، ويمكن تأريخ انتهائها أبكر من ذلك التاريخ إذا اعتُمدت بداية الحرب كنهاية فعلية للثورة السلمية التي استقطبت ملايين السوريين. وأن تكون الحرب قد ورثت الاصطفافات السابقة عليها، فهذا لا يجعل من طرف منها ممثِّلاً للثورة أوتوماتيكياً، والواقع أن يافطة “الجيش الحر” فرغت من معناها سريعاً، وبقيت في الساحة فصائل تُشهر عدم احترامها لقيَم الحرية والديموقراطية، وبعضها يُشهر عداءه لهذه القيَم بما لا يقل إطلاقاً عن عداء الأسد لها.

يمكن تفهُّم، أو عدم تفهُّم، أقصى درجات الانحياز في الحرب، من دون إعطائه ميزة ثورية. والأكثر شيوعاً أن الانحيازات اتخذت مع توالي الزمن والأحداث، سمة الضرورة والواقعية معاً. السوريون الموجودون في أماكن سيطرة قوى الأمر الواقع، هم أكثر إدراكاً لهذا، بينما يسهل على سوريين بعيدين من الواقع الاغتراب عنه بانحيازات لا تشوبها منغّصات وممارسات “أبطالهم الثوريين”.

أما الحديث عن قوى الأمر الواقع بوصفها أخطاء تتخلل الثورة، مثلما تخللت العديد من الثورات، فلا يبدو من مبرر له سوى عدم الاعتراف بفشل الثورة. ومن أجل الإنكار تُستحضر أقوال وأفكار شديدة الاختزال، على الأغلب من دون تدقيق كافٍ فيها. هكذا مثلاً، يُروَّج أن الثورة الفرنسية، كنموذج عالمي مُلهم، استمرت لعقود أو أكثر، فلا يكون هناك تفريق بين الثورة كحدث انتهى وارتداداتها التي قد تستمر عشرات السنين، والتي قد تتضمن أزمنة أسوأ بكثير مما ثار الناس عليه من قبل. في أحسن أحوالها، تعزّز هذه الأمثلة ما يُدعى بالتفاؤل التاريخي، التفاؤل الذي لا يُتاح عادة لأصحابه أن يروا ثمراته.

يتداول سوريون شعارات من قبيل: الثورة فكرة والفكرة لا تموت. ومعظمهم يفعل هذا بنوايا طيبة، وبإخلاص لمثُل الثورة السورية. وبتدقيق عجول يمكن الانتباه إلى أن الشعار السابق يخلط بين القيَم والأفكار من جهة، والثورة كحدث واقعي من جهة أخرى، ولا بأس إذا تغاضينا عن المغالطة في القول إن الأفكار لا تموت. وربما يتوجّب علينا هنا ألا نهمل اعتبارات فردية تشكّل ظاهرة واسعة، ملخّصها أن حدث الثورة تأسيسيٌّ للكثير من السوريين، ومن العسير عليهم التفريط بلحظتهم الأعزّ، ولا جديد في هذه الحالة أن يكون إنكار الواقع الراهن أسهل من الاعتراف به.

ما يحدث في إنكارٍ “له أنصار كثر” أن تبقى الثورة بمثابة إعاقة، إذ طالما أنها مستمرة وحيّة “بحسب هؤلاء” فليس من الملحّ التفكير في ما بعد دفنها. الحديث لا يقتصر على الإعاقة الفكرية، فثمة وضعٌ تستفيد منه سلطات أمر واقع تدّعي الانتساب إلى الثورة، وتستفيد منه هيئات معارضة تدّعي ذلك أيضاً، ووجود مَنْ ينكر عليهما مزاعمهما من أنصار “الثورة المستمرة” لا يجرّدهما من “الشرعية” بقدر ما يفعل ذلك الاعترافُ “الذي لم يحدث” بانتهاء الثورة. لعلنا لا نتردد هنا في القول أن دفن الثورة فعل ثوري، على الأقل بالمقارنة مع ترك جثتها تتفسّخ في العراء.

إنْ كان من معادل شديد الوضوح للجثة المتفسّخة، فهو الخصومات التي تتحيّن فرصة، أدنى فرصة، لتنشب بين مَن يُعرَفون بأنهم أنصار الثورة. هي خصومات شديدة القسوة، بل يجوز القول أن أدواتها اللفظية إباديّة، إذ يتجاوز معظمها الخلاف مع رأيٍ للآخر إلى محاولة النيل منه جملة وتفصيلاً. أول مزايا هذه الخصومات انطلاق العنف اللفظي، مباشرة أو ضمناً، على قاعدة تخوين الآخر، ومرجعية التخوين هي الثورة وفق ما يراها أصحاب الاتهام؛ الثورة التي “على فرض أنها مستمرة” لا تقبل التعدد!

لا جدوى في السياق من التذكير بأن الضيق الشديد بآراء مَن يُفترض أنهم الأقربون، لا يعكس انتماء حقيقياً إلى قيَم الثورة، فلحظة الثورة فيها ما فيها أيضاً من سوء التفاهم بين أنصارها، وما كان يجمعهم سلباً برغبتهم في التخلص من الأسد يفوق بمراحل ما جمعهم إيجاباً لجهة الاتفاق على المستقبل لو انتصرت الثورة. سوء التفاهم لا يقتصر على عدم الاتفاق على الأهداف التي كانت معلنة للثورة، بل ينسحب أيضاً “وبقسوة شديدة” على المتفقين نظرياً على تلك الأهداف مع احتفاظ كلّ منهم بفهمه الخاص لها.

في المحصلة سيكون الانتماء إلى ثورة لم تعد موجودة، كأنه محرّك للتفريق والتخاصم، بخلاف الثورة التي هي لحظة التقاء استثنائية. ولقد تكرر التعبير عن الفرقة والتخاصم بعنف لفظي كان مفاجئاً في البداية، ويتجه ليكون معتاداً، ثم تزيد فداحته عندما يمارسه أشخاص يقيمون في أوروبا وتحمل منشوراتهم تحريضاً “ولو معنوياً” على ممارسة العنف. مخالفة هؤلاء لقوانين البلدان التي يقيمون فيها، هي استمرار لما يحدث في مكانهم الأمّ “سوريا” بوصفها أرضاً للإفلات من العقاب، أو بالأحرى هي استئناف للنظرة التي تُدني من شأن السوريين فلا ترى في التطاول عليهم فعلاً يستحق العقاب.

مع ما سبق يصبح دفن جثة الثورة واجباً أكثر من ذي قبل، إذ سيعني التخلص من هذه العداوة اللصيقة الحميمة المدمِّرة بين “أبنائها”. هو فعل تحرري أيضاً، إذ يتضمن التحرر من الآخر، حين لا يُنظر إليه بوصفه “يشبهنا”. ندرك أن تنفيذ هذا الاقتراح شاق جداً وفيه ما فيه من ألم، لكن لا بأس بالتذكير بأن الحياة ممكنة بلا ثورة، ولو مؤقتاً!

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل