من المحتمل أن الإسرائيليين لن يتمكنوا من تجاوز صدمة السابع من شهر تشرين الأول 2023 في جيل واحد، بصرف النظر عن نتائج حربهم الوحشية على قطاع غزة بالخسائر المهولة التي أوقعها جيشهم في القطاع وسكانه. فقد «اكتشفوا» في التاريخ المذكور أنهم كانوا مخدوعين بوهم حياتهم التي ظنوا أنها آمنة بفضل التفوق العسكري الهائل على «العدو» الذي طالما قللوا من شأن بأسه. وعاجلاً أم آجلاً سيكتشفون أن الشعور بالأمان لن يتحقق بالغلبة بل بسلام حقيقي يرضي الطرف المقهور أيضاً بقدر ما يرضيهم حين يقتنع هؤلاء أن السلام أكثر فائدة من الحرب. والحال أن جميع اتفاقيات التسوية التي أبرمتها إسرائيل مع الدول العربية ومع الفلسطينيين، بإشراف أمريكي، منذ أكثر من أربعة عقود من أصل أقل من ثمانية هي عمر الكيان، لم تلب الحد الأدنى مما يتطلع إليه الفلسطينيون والعرب والمسلمون ليتوقفوا عن محاولاتهم المتكررة لتعديل موازين القوى بالعنف. كذلك لم ينفع إسرائيل كل الدعم الأمريكي والغربي بالمال والسلاح والموقف السياسي في إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني الذي لن يتوقف قبل تحقيق تطلعاته في دولة مستقلة وحياة حرة كريمة أسوة بباقي شعوب الأرض.
بالمقابل لم تنفع كل الحروب التي خاضتها دول عربية، وكذا المقاومة الفلسطينية و«حزب الله» التابع لإيران، ضد إسرائيل في الاقتراب من تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، أو حتى في تعديل موازين القوى مع إسرائيل بما يرغمها على القبول بحل مقبول. وفشلت اتفاقات السلام مع عدد من الدول العربية لأن «الوسيط» الأمريكي في التفاوض بشأنها وعقدها هو في الوقت نفسه الحليف الاستراتيجي الأول لإسرائيل، ولم يقم بدور الوسيط الحقيقي غير المنحاز، وكان من شأن إيفائه لشروط هذه الوساطة أن ينقذ مستقبل حليفها بدلاً من إرضاء طبقته السياسية التي أسكرها وهم التفوق في جميع المراحل السابقة.
كان المرحوم ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للمقاومة الفلسطينية، يؤمن باستراتيجية تمزج بين المقاومة والتفاوض، وهو القائل إنه سيقبل بإقامة دولة فلسطينية عن طريق المفاوضات، حتى لو لم تتجاوز مساحتها قريةً واحدة في أول الأمر، لينطلق منها، بواسطة استمرار المقاومة، لتوسيع هذا الكيان المفترض بصورة متدرجة. كان هذا الكلام في سياق دفاعه عن اتفاقات أوسلو التي منحته مساحة أولية داخل الأراضي الفلسطينية، وحررته نسبياً من الاضطرار لانطلاق المقاومة من البلدان العربية المجاورة طوال عقود، الأمر الذي كانت له كلفة باهظة تمثلت في حربين أهليتين في الأردن ولبنان، وقمعاً ومجازر ووصاية من نظام الأسد. من تلك المساحة الأولية التي حصلت عليها منظمة التحرير الفلسطينية انطلقت الانتفاضة الثانية في مطلع القرن الحالي، وأدت إلى القضاء عملياً على مكتسبات أوسلو، وكلفت أبو عمار حياته. الخلاصة أنه لا المقاومة ولا التفاوض ولا محاولة المزج بينهما قد أدت إلى تحقيق أي اقتراب من حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.
ثمة تناقض غير قابل للحل بين رغبة تزعمها إسرائيل في العيش بسلام مع محيطها وعدم اعترافها بحق مماثل للفلسطينيين، ولا يمكن تحقيق تلك الرغبة إلا بهذا الاعتراف والخضوع لموجباته
لا يكمن سبب ذلك في قصور الاستراتيجية المتبعة، بل في عوامل تقع خارج سيطرة الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية. واختلت الموازين أكثر لغير صالح القضية الفلسطينية بعد نهاية الحرب الباردة على معادلة القطب الواحد بما ألغى هامش المناورة أمام الفلسطينيين الذين تركوا لمصيرهم في مواجهة إسرائيل مزودة بفائض قوة وبوهم قدرتها على فرض إرادتها على خصومها.
وبلغ هذا الوهم ذروته في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال ما سمي باتفاقات أبراهام ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتراف واشنطن بضم إسرائيل مرتفعات الجولان السورية التي احتلتها في العام 1967، وموافقتها على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل. كل هذا كان كثيراً جداً على هضم التيارات السياسية الإسرائيلية الأشد تطرفاً، بمعنى الهضم الإيجابي الذي قد ينتج شيئاً من التعقل بدلاً من جنون القوة المطلقة التي تؤدي بصاحبها إلى المهالك. وفي الأيام الأولى من الحرب الوحشية على قطاع غزة ظهر هذا الجنون من خلال إعلان أهداف اتضح بمرور الوقت استحالة تحقيقها مهما بلغ حجم الدمار والمجازر بحق الفلسطينيين. بل انقلب الوضع ضدها على الأقل على مستوى الرأي العام في الدول الغربية، بما في ذلك إدانتها من قبل محاكم دولية وتراجع نسبي في حماس الإدارة الأمريكية في دعمها المطلق.
واليوم تواجه إسرائيل خطراً إضافياً يتمثل في احتمال قيام حرب واسعة بينها وحزب الله في لبنان. ويبدو قرار هذه الحرب في يد إسرائيل أكثر مما هو في يد حزب الله أو إيران. وربما توازن الحكومة الإسرائيلية بين تكاليف كل من خياري الحرب أو استمرار الوضع على ما هو عليه من حرب منخفضة الكثافة لا يبدو أنها يمكن أن تتوقف قبل توقف حربها على قطاع غزة. ولا يبدو أن «الوسيط» الأمريكي قد تعلم شيئاً من دروس طوفان الأقصى أو حرب إسرائيل على قطاع غزة. فهو يسعى لتحقيق تسوية مؤقتة بين إسرائيل والحزب جوهرها فرض الشروط الإسرائيلية أو تحقيق الأمن لشمال إسرائيل من خلال إبعاد قوات الحزب عن الشريط الحدودي. ومن المستبعد أن يوافق الحزب على ذلك.
ثمة تناقض غير قابل للحل بين رغبة تزعمها إسرائيل في العيش بسلام مع محيطها وعدم اعترافها بحق مماثل للفلسطينيين، ولا يمكن تحقيق تلك الرغبة إلا بهذا الاعتراف والخضوع لموجباته.
عذراً التعليقات مغلقة