احتفلت وكالة “سانا” للأنباء التابعة للنظام السوري، ومعها وسائل إعلامية، بأخبار دخول بعض الجامعات السورية إلى تصنيف “التايمز” للجامعات، فظهر وكأن الحدث بذاته، هو نقطة فارقة، سيتغير بعدها واقع مؤسسات التعليم العالي السورية!
تاريخياً، كانت هذه الجامعات خارج غالبية التصنيفات المعروفة على المستوى العالمي، وكانت الأخبار التي تُذكر عن حلول جامعة دمشق في مراتب متأخرة جداً ضمن بعض اللوائح، تُستخدم كعنصر إثبات إضافي للتأكيد على ترهل حالها، أي أنها تحصيل حاصل، بعد النظر في كل جوانب العمل الخاصة بها.
ويبدو أن ثمة مَن أصدر أمراً مُلزماً لوزارة التعليم العالي بألا تهمل هذا التفصيل، فبذلت منذ العام 2018 بعض الجهد في سبيل تحسين صورة مؤسساتها، والعمل على رفع مستوى التصنيف العالمي المرتكز على البحث العلمي. أُقيمت ورشات عمل وضُعت فيها استراتيجية تطوير. وبحسب ورقة عمل أعدتها د.سحر الفاهوم، معاونة وزير التعليم العالي لشؤون البحث العلمي، فإن تغيير الصورة يحتاج إلى دراسة المواقع الإلكترونية للجامعات، بوصفها واجهاتها التي يزورها الآخرون، بالتوازي مع دراسة واقع المجلات العلمية، وإنشاء قاعدة بيانات شاملة في موقع الوزارة الإلكتروني، تضم رسائل الماجسيتير والدكتوراه في الجامعات السورية كلها، وفي الاختصاصات كافة، إضافة إلى وضع خطة عملية وإدارية لمتابعة ما سبق، أفضت في المحصلة، وبعد سنوات، إلى ظهور مكاتب تصنيف خاصة بكل جامعة. وهكذا وصلت إلى المتابعين أخبار منسوبة إلى مديري هذه المكاتب، عن تغيرات في مسألة التصنيف. بالإضافة إلى إبراز تصريحات لرؤساء الجامعات، يعلنون فيها عدم رضاهم عن واقع التصنيف الخاص بها.
وبعد سلسلة من الخطوات المستجدة، كدعوة الإدارة، الباحثين، إلى نشر بحوثهم في محرك “غوغل سكولر”، ودفعهم نحو تقديم أعمالهم إلى مجلات علمية معتمدة، وصل المسؤولون إلى عتبة إعلان دخول بعض الجامعات السورية إلى عدد من التصنيفات، التي تراكمت أخبارها خلال الفترة الماضية. فأُعلن دخول جامعة دمشق تصنيف “الراوند” العالمي، لتحلّ في المركز 951 عالمياً. ولم يلبث د.مروان الراعي، مدير مكتب التصنيف (استُحدث مكتب التصنيف بقرار مجلس الجامعة بتاريخ 4/7/2023 وهو تابع إدارياً لمركز ضمان الجودة في الجامعة)، أن صدم الجمهور بما اعتبره طرفة، إذ نُقل عنه قوله في حوار مع إذاعة “المدينة”: “إن راتب الأستاذ الجامعي في سوريا يأتي في المرتبة الأخيرة عالمياً”، و”أنهم عندما اضطروا إلى إخبار مشرفي تصنيف “QS 2025″ العالمي برواتب الأساتذة في سوريا اعتقدوا أننا نسينا إضافة صفر”!
الاستغراق الحاصل في مسألة التصنيف، بات تفصيلاً مضحكاً أمام الجمهور. فضاع القارئ بين تصريح نقلته “سانا” عن الراعي قال فيه “إن الجامعة الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا دخلت التصنيف إلى جانب جامعة دمشق، مبيناً أن دخولها تم من خلال التعاون الكامل مع مكتب تصنيف جامعة دمشق، إيماناً من جامعة دمشق بأهمية دخول جميع الجامعات السورية إلى جميع التصنيفات الجامعية العالمية”… وبين خبر آخر نقله مراسل جريدة “الثورة” من اللاذقية عن أن “جامعة تشرين” تصدرت المرتبة الأولى للجامعات السورية التي تدخل للمرة الأولى في تاريخها في تصنيف “التايمز” البريطاني لتكون من أول 1000 جامعة متقدمة للتصنيف وبمرتبة من 801 من 1000. واختتمه بالإشارة إلى جامعات سورية أخرى في التصنيف بالمراتب اللاحقة، وهي جامعة دمشق والجامعة الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا وجامعة المنارة.
موقع تصنيف “التايمز” في الإنترنت، يحسم، وبشكل طبيعي، فوضى معلومات وقع فيها المحتفلون بالنصر التصنيفي، إذ لا يمكن لأي ادعاء أن يستمر طالما أن اللوائح متوافرة ويستطيع المهتمون الاطلاع عليها، ويستطيعون في الوقت ذاته تتبع آليات عمل المؤسسة التي تديره وأوضاع الجامعات العربية فيه.
لكن أهم ما يكشفه الموقع، يتمثل في أن هناك فهماً مضللاً لمسألة ورود أسماء الجامعات فيه، فهو سجل يجمعها، بناء على طلب أصحابها، ويضعها في مراكز تحتلها وفق مجموعة هائلة من المعايير. وفي الوقت نفسه، لا يمنحها “الثناءات”، بل يجعلها في أجواء المقارنات مع جامعات أخرى، قد تكون أقل أو أكثر عراقة، الأمر الذي يكشف وبعد المقارنات الطبيعية، واقعها المُحبِط وترهله المزمن. فهي بعيدة، وبمسافات شبه ضوئية، عن الجامعات المئة الأولى حول العالم، وهي في واقعها الحالي تتأخر عن الجامعات العربية الأخرى!
تصريحات المسؤولين في هذا القطاع، تتحدث دائماً عن الواقع المزري للوسط الأكاديمي، من ناحية الوضع المعيشي، وقلة الأجور، وأيضاً تفشي حالات السرقات العلمية، وكذلك استنزاف الهيئات العلمية لكوادرها بسبب هروبهم من الواقع السيء، وكذلك تراجع موازنات الجامعات وتراجع الموارد. فيتناقض مع رايات الانتصارات البراقة في مسألة التصنيف، ليبدو السعار التصنيفي في المحصلة، أشبه بعملية تغطية للواقع السيئ، بصورة براقة، وكأن الواقع التعليمي الغريق، يمكن انتشاله من خلال المراتب التي يمكن لهذه الجامعة أو تلك أن تحتلها في اللوائح!
وقبل هذا وذاك، لا يمكن التعاطي مع اللهاث صوب التصنيفات، من دون النظر إلى عوائد يمكن أن تجلبها العملية التسويقية المتضمنة في هذا المسار. فهل الجامعات السورية المتخمة بمئات الآلاف من الطلاب السوريين، إضافة إلى الموفدين العرب الذين يتم استقبالهم بناء على توجيهات القيادة القُطرية لحزب “”البعث”، جاهزة، لاستقبال من يصدقون ادعاءات تطورها ويأتون للدراسة فيها؟
وكيف يستوي لدى الأكاديميين العاملين على هذا الأمر، أنهم يتوجهون صوب مؤسسات غربية تتبع معايير مستقلة، وتنطلق من أرضية تنزيه المؤسسة العلمية عن السياسة، بينما تخضع كل مؤسسات البلاد، بما فيها التعليمية، لقرارات حزبية تنطلق من عقول أزلام النظام المسيطر، وتحكم طلابها في صفوفها ومدرجاتها ميليشيا الاتحاد الوطني لطلبة سوريا، التي تتكفل بمتابعة الجميع أمنياً؟! ووفي الوقت ذاته، تتوغل المؤسسات الروسية والإيرانية في جسد التعليم العالي السوري، في سبيل خلق بيئة تخدم مصالح البلديَن اللذين يحتلان سوريا.
عذراً التعليقات مغلقة