مطلع تشرين أول/أكتوبر 2019، انتشر مقطع مصور لبائعة مناديل ورقية في بغداد. كان مصور وكالة “أسوشيتد برس” يلاحق المرأة وهي تفتح الأكياس التي اعتادت بيعها في ساحة التحرير، وتوزّع بكرمٍ مناديلها مجاناً على من تعرضوا للغازات المسيلة للدموع.
حدث ذلك في أثناء ما عُرف يومها بثورة الشباب في العراق. خلال ساعات تحولت تلك المرأة بعباءتها السوداء، التي لم تتفوه بأي حرف، إلى “أيقونة” للانتفاضة، فدعاها العراقيون “خرساء العراق”.
سيتبين لاحقاً أن اسمها دنيا، وهي لم تكن خرساء، كما اعتقد الجميع، ومع ذلك ما زالت تُدعى بهذا اللقب حتى يومنا هذا.
قبل ذلك، وفي ربيع العام نفسه، لكن في السودان، كانت المصورة الصحفية لانا هارون قد التقطت مقطعاً مصوراً لسيدة سودانية تقف على ظهر سيارة، ترتدي الثوب التقليدي الأبيض مع أقراط ذهبية تتدلى على رقبتها، وهي تهتف بحماس وتتحدث إلى جموع المتظاهرين. سنعرف فيما بعد أنها آلاء صالح طالبة كلية الهندسة في جامعة الخرطوم. بسرعة انتشر المقطع عالمياً هذه المرة، لتتحول آلاء إلى أيقونة للثورة السودانية تحت اسم “كنداكة السودان”.
في الثورات يصبح للأيقونة والرمز قوة دافعة، أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا. ويستخدمها الجمهور بقوة لكي يثبتوا روايتهم عن واقع الحال.
يطلق تعبير أيقونة (Icon) أو رمز (Symbol) عادة على الرسومات خصوصاً الدينية منها، وهي تعتمد رموزاً محددة. مع ذلك، ومع تطور الاجتماع البشري، والحركات الاجتماعية، بدأ أشخاص يتحولون إلى أيقونات ورموز. وهنا أول ما يخطر في البال المسيح على الصليب، كرمز وأيقونة للفداء. وفي التاريخ مئات من الرموز المشابهة، التي تكتسب معناها من رمزية الشخص أكثر من الشخص ذاته. صورة أرنستو تشي غيفارا ستعني فوراً لمن يراها “الثورة المستمرة” ولو لم يكن المتلقي يسارياً، وصورة مانديلا ستعني النضال ضد التمييز العنصري ولو كان الشخص المتلقي عنصرياً. وتماثيل كاوا الحداد ستعني النضال ضد الظلم كما يعلم الجميع في منطقتنا.
خلال الربيع العربي، ظهرت رموز وأيقونات، لم يكن يخطر بالبال أن تكون كذلك، ولكن قوة اللحظة أو الفعل جعلتهم يتحولون إلى أيقونات. صورة البوعزيزي نتلقاها فوراً على أنها تعبير عن ثورات الربيع العربي، ونغضُّ النظر عن أن الشخص مات منتحراً، وهذا بالعرف الديني غير مقبول. أصبح الرجل رمزاً وأيقونة أخلاقية للشعوب العربية، مع أنه بائع خضراوات بسيط. وكذا بالنسبة للحالة السورية، فإن صورة الطفل حمزة الخطيب (13 عاماً) التي تحولت إلى أيقونة ستحيلنا فوراً إلى جرائم مخابرات الأسد بحق الطفولة. وصورة الطفل إيلان الكردي وهو
ممدد على الرمل ستعني على الدوام، جرائم المجتمع الدولي وتقصيره بحق اللاجئين الهاربين من الموت.
في الثورات يصبح للأيقونة والرمز قوة دافعة، أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا. ويستخدمها الجمهور بقوة لكي يثبتوا روايتهم عن واقع الحال. بينما تعمل السلطات دون كلل على تحطيم تلك الرموز خشية تأثيرها. وجميعكم تعلمون الرواية الأمنية التي اتهمت الطفل حمزة الخطيب أنه كان يحاول الوصول إلى سكن الضباط من أجل اغتصاب زوجاتهم، وهو ما لا يستقيم مع أي عقل، ومع ذلك كانت الاصطفافات هي العامل الحاسم في تصديق هذه الرواية أو تلك.
في بدايات الثورة السورية، ومنذ الأيام الأولى، بدت الكثير من الاصطفافات واضحة للعين الثاقبة، ولكن من هول الصدمة، أعني صدمة أن السوريين قد انتفضوا حقاً، قدّم بعض المثقفين مواقفهم على شكل ملاحظات انتقادية، أحياناً إيجابية للحقيقة. مع ذلك، يجب التدقيق في أنهم كانوا دؤوبين على البحث عن ملاحظة هنا أو هناك لا تتناسب مع الحالة المخبرية المعقّمة للثورات، وغالباً ما كانت تلك الملاحظات تترافق مع الحرص الشديد على اللوحة بيضاء بلا أية شائبة.
تالياً سنكتشف، بالأحرى هم سيكونون أكثر وضوحاً، لندرك أن تلك لم تكن اختلافات في الرؤى حول الطريقة الفضلى أو الكيفية الأسلم للانتقال إلى سوريا الحرَّة. في العمق (المستتر) لأغلب هؤلاء، كان الأمر يتعلق بالموقف الحقيقي من إسقاط نظام الأسد.
الأيقونة حالة رمزية، يلتقطها الجمهور في سياق ما، وتتحول إلى رمزية محددة، وليس بالضرورة أن تكون حالة رسولية.
فيما بعد، إثر ما بدا أنه هزيمة للثورة، بدأت تظهر مجموعات من السوريين (الطهرانيين) في صفوف مؤيدي الثورة، ممن اعتبروا أن اللوحة غدت سوداء بالكامل، فكانوا كلما رأوا ولو نقطة صغيرة بيضاء، يحاولون تلطيخها بالسواد، كي لا تخرّب عليهم نظرتهم الثاقبة إلى لوحة الهزيمة. متناسين البدايات البهيّة وكل ما جرى خلالها، قبل مجيء رايات لم يكن السوريون بمعظمهم يريدونها.
هذا الموقف المتنكِّر للمهزوم، ومحاولة أصحابه الانتماء لشريحة المنتقدين الذين لو تم السماع لنصائحهم لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، مع تغييب كل المعطيات بما فيها العامل الخارجي الحاسم في الحفاظ على نظام الأسد. هؤلاء امتلكوا قدرةً ودأباً على التحطيم بمفعول رجعي، حتى إنه لا يتناسب مع مواقفهم في البدايات. فراحوا يحاولون قتل كل ما كان بهياً، ولم ينج منهم غياث مطر ولا أبو الفرات، ولا حتى باسل شحادة.
بالعودة إلى الأيقونات والرموز، فإن موت شخص الرمز في أثناء الفعل المؤثر سيديم عليه رمزيته، أما أن يتابع حياته بعدها فتلك مشكلة له، تأسره أحياناً ضمن تلك الرمزية، خشية من يحاولون تصيّد أخطائه لينزعوا عنه هالة الرمزية، وأبلغ مثال في الحالة السورية هي حالة الشهيد الساروت، ففي كل ذكرى لاستشهاده، وهي مرت قبل أيام، سنسمع تلك الأصوات التي تصيَّدته في ذاك الموقف أو تلك الكلمة، وهي محقة غالباً، فالساروت لم يكن قديساً ولا قائداً يحاول تفادي الهفوات، على عادة السياسيين.
طبعاً أعني محقة بأن هناك أخطاء وهفوات من شاب بسيط احتمل من الضغوط والتضحيات ما يعجز عنه أي إنسان طبيعي، ولكن الكارثة أن هؤلاء يتعامون عن سيرة مدهشة من التضحية.
حسناً، لن أسترسل أكثر في الدفاع عن الساروت كعادتي، وكما سأفعل على الدوام. ولكن سأعيد التأكيد، كما فعلت دائماً، أن مي سكاف التي لم تُرِد لابنها أن يحكمه ابن بشار الأسد أيقونة سورية. وفدوى سليمان العلوية (أعتذر عن التصنيف) التي هتفت مع الساروت من البياضة والخالدية أيقونة. والساروت الذي لديه من الأخطاء أقل بكثير مما لدى غيفارا ومانديلا، أيقونة سورية أيضاً ورمز للتضحية والصدق ونظافة اليد. فالأيقونة حالة رمزية، يلتقطها الجمهور في سياق ما، وتتحول إلى رمزية محددة، وليس بالضرورة أن تكون حالة رسولية.
عذراً التعليقات مغلقة