كنت في الصف العاشر يومها، أبلغنا مدير الثانوية التي كنت أدرس فيها، إن قيادة فرع حزب البعث العربي الإشتراكي ستشرّف قريتنا ومدرستنا بإرسال أحد أعضائها لرعاية الاحتفال بذكرى ميلاد البعث، كان ذلك حدثاً عظيماً لقرية صغيرة منسية في أقصى جبال الساحل، ولهذا استنفرنا جميعاً، كنا نحن الطلاب سعداء، فعدا عن كوننا سنرتاح من الحصص الدراسية ليومين متتالين، فإننا سنحظى أيضاً بمشاهدة مسؤول رفيع الشأن، وقد ترافقه كاميرا التلفزيون، وربما التقطت لنا بعض الصور رغم أن الكهرباء لم تكن قد وصلت إلى قريتنا، ولم يكن هناك أي تلفزيون فيها، إلا أن سحر الفكرة كان كافياً لكي نحلم.
في اليوم الذي سبق قدوم السيد عضو قيادة الفرع، قمنا بإحضار كميات كبيرة من أغصان الريحان، وتبرّع رجل يعمل في البناء ويملك ألواح خشبية يستعملها في صب الأعمدة والأسقف الإسمنتية بنصب هيكل خشبي على مدخل المدرسة، غلفناه بأغصان الريحان، وفي أعلى الهيكل تم تثبيت صورة كبيرة “للقائد التاريخي” للبلاد والحزب “حافظ الأسد”، وبجانب الصورة وضِع علم سوريا وعلم البعث.
في صبيحة يوم الاحتفال، كان علينا إخراج الأعلام واللافتات التي سنرفعها في الاحتفال من مستودع المدرسة، وتنظيفها وتوزيعها على الطلبة، وكُلِّفت مع اثنين آخرين يرافقنا مستخدم المدرسة بإحضارها من المستودع الموجود في قبو البناء، كان الدرج المفضي إلى المستودع معتماً، ومغطى بطبقة كثيفة من الغبار، والأوساخ المتراكمة، وعلى ضوء المصباح الكهربائي الذي حمله المستخدم، كنا نرى سحب الغبار التي تثيرها خطواته، كانت القذارة والفوضى تستبيحان المكان، وكانت الأعلام واللافتات المرمية في زاوية المستودع مغطاة بغبار كثيف. حملنا ما نريد إحضاره، وعندما خرجنا من العتمة إلى الضوء كنا كما الأشياء التي نحملها مغلفين بالغبار.
باختصار جاء المسؤول الحزبي، ولم يكن برفقته أي من وسائل الإعلام، صفقنا له كثيراً وهو يتحدث عن الرئيس التاريخي والبعث العظيم والصمود والمؤامرة التي تتحطم كل مطلع شمس، وهتفنا كل الهتافات التي وزعت علينا مسبقاً، لكنه غادرنا مسرعاً، فقريتنا بعيدة، والطريق إليها جبلي وترابي ويحتاج لوقت طويل كي يصل إلى المدينة.
كان الاجتماع الأخير للجنة المركزية أشبه بمسرحية سخيفة، يُعاد عرضها كلّما دعت الحاجة.
لا يختلف اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي عُقِد قبل أيام عن احتفالنا ذاك بذكرى البعث في قريتنا الصغيرة، مجرد مهرجان سخيف، لإعلان الوفاء لشخص الرئيس الأمين العام للحزب، فهذا الحزب الذي وصل إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري في عام 1963م توقف منذ تلك اللحظة، وربما قبلها، عن أن يكون حزباً، وأصبح مجرد واجهة لأشخاص مهووسين بالسلطة.
كان الاجتماع الأخير للجنة المركزية أشبه بمسرحية سخيفة، يُعاد عرضها كلّما دعت الحاجة، أي كلما أوصلت زعامات هذا الحزب البلاد إلى كارثة جديدة، ورغم كل التنظيرات الجوفاء التي أطلقها “بشار الأسد”، بصفته منظّر الحزب “العبقري” الوحيد حول الإيديولوجيا، ومعناها، وضرورة الأحزاب العقائدية، ومعنى الاشتراكية الجديدة وعلاقتها بالاقتصاد والمجتمع والفقراء، وعزفه الممجوج على وتر القضية الفلسطينية، وتناقضاته الصارخة، فإنه وبعيداً عن كل هذا الهراء كان هناك رسائل عديدة أراد إرسالها.
يمكن تقسيم الرسائل التي وجهها “بشار الأسد”، والذي اختُصر الحزب كلّه في شخصه إلى نوعين، رسائل خارجية، ورسائل داخلية.
في رسالته للخارج أراد “بشار الأسد” القول:
1- في سوريا حزب يقود الدولة والمجتمع. ورغم أنه نفى ذلك في متن خطابه حين اعترف أن اللجنة المركزية لم تعمل بشكل جدي، ولم تجتمع منذ عشر سنوات، أي خلال السنوات الأقسى في تاريخ سوريا الحديث، وأن آخر مؤتمر للحزب عقد منذ عشرين عاماً، فكيف إذاً كان يقود الدولة؟
2- لقد قمنا بأول انتخابات حقيقية في تاريخ الحزب. المضحك في هذه الرسالة هو السؤال البدهي الذي يطرح نفسه هو كيف إذاً سار الحزب طوال عقود حكمه الست؟
3- سنفصل الحزب عن السلطة التنفيذية. أيضاً يعترف بشار الأسد هنا أن الحكومات المتعاقبة في سوريا منذ وصول البعث، لم تكن أكثر من أداة في يد البعث، وبدقة أكثر في يد أمينه العام.
4- سنطلق حواراً داخل صفوف الحزب لإعادة صياغة فكر البعث. إذاً، على أي فكر أو أساس نظري حكم حزب البعث الدولة والمجتمع خلال العقود السابقة، وهل كان للبعث أي خطة عمل أو أساس فكري سابقاً، كي يتم إعادة صياغته، أم أن المهزلة التي اسمها “بعض المنطلقات النظرية”، والمكتوبة منذ عقود طويلة، والتي هي مجرد شعارات جوفاء، لا علاقة لها بإدارة الدولة أو المجتمع، هي من سيعاد صياغتها؟
لقد قمنا بأول انتخابات حقيقية في تاريخ الحزب. المضحك في هذه الرسالة هو السؤال البدهي الذي يطرح نفسه هو كيف إذاً سار الحزب طوال عقود حكمه الست؟
كثيرة هي الرسائل التي أراد بشار الأسد إيصالها حول فهمه لدور الإيديولوجيا، ودور الحزب العقائدي، وغيرها والتي يحاول القول فيها إن سوريا تتبنى تجربتي روسيا والصين، متجاهلاً وبصفاقة عجيبة، الاختلافات الكبيرة والعميقة بين الواقع في كل من الصين وروسيا من جهة، وبين واقع سوريا من جهة أخرى.
الأهم من رسائله للخارج كانت تلك التي وجهها للسوريين، والتي تحمل المعنى الحقيقي لما سيتم تنفيذه على الأرض، والأبرز بينها:
1- سيُعاد النظر في كل سياسات الدعم المقدمة للشرائح الفقيرة في سوريا التي أصبحت تشكّل النسبة الساحقة من المجتمع السوري.
2- سيتم التخلي عن سياسة التوظيف، التي كانت تقوم بها الدولة، وهو إجراء منطقي، لكن لو كان الاقتصاد السوري معافى، والدولة غير منخورة حتى آخرها بالفساد، وسوريا غير محتلة وتتقاسم ثرواتها دول أخرى، ومعظم رجال الأعمال ومالكي رؤوس الأموال خرجوا من سوريا أو يحاولون الخروج، وبالتالي لن يكون هناك اقتصاد خاص، يستوعب اليد العاملة التي تدخل السوق سنويا.
3- سيتم التخلي عن قسم كبير من المتفرغين في مكاتب ومؤسسات حزب البعث، وهو إجراء كان من البدهي أن لا يكون أساساً، وأن لا تتحمل الدولة أعباء جيش من كتبة التقارير والفاسدين، الذين يديرون حزباً وهمياً اسمه “البعث”.
4- لن يكون هناك قطاع عام إنتاجي في سوريا، وسيقتصر القطاع العام على مجال الخدمات الأساسية.
5- ستظل سوريا محكومة بحزب عقائدي مؤدلج، حزب ديكتاتوري، قمعي، يرى أنه الوحيد المخول بإدارة الدولة، وأن الحياة السياسية على النموذج الغربي لا تصلح لمجتمعنا.
6- ليس هناك أي مساس بالأجهزة القمعية، ودورها ووظيفتها.
سيتم التخلي عن قسم كبير من المتفرغين في مكاتب ومؤسسات حزب البعث، وهو إجراء كان من البدهي أن لا يكون أساساً، وأن لا تتحمل الدولة أعباء جيش من كتبة التقارير والفاسدين، الذين يديرون حزباً وهمياً اسمه “البعث”.
المفارقة الأشد مدعاة للسخرية في خطاب القائد الفذّ تجلّت في اتهامه للمعارضة التي لم تطلق صاروخاً واحداً تضامناً مع غزة بالخيانة والعمالة لإسرائيل، يبدو أنه نسي في غمرة جعجعته الفارغة أنه ووالده قبله لم يطلقا طلقة واحدة باتجاه إسرائيل التي تحتل أرضاً سورية منذ نصف قرن!!
عندما عدت ذلك اليوم من احتفالنا بذكرى ميلاد البعث، فوجئت أمي بثيابي المتسخة بكاملها وبشعري ووجهي المغبرّ، فصرخت بي:
– الله لا يوفقك، من أي مزبلة أنت قادم.
قلت لها بكامل الحماسة والصدق: من مزبلة البعث!
عذراً التعليقات مغلقة