«الشرق الأوسط، وفقاً للمعطيات المتاحة، هو المنطقة الأكثر انعداما للمساواة في العالم، ويعود هذا الواقع بقدر كبير إلى أن موارد النفط (…) متركزة في مناطق قليلة السكان، حيث يراكم أوليغاركيون احتياطيات مالية غير محدودة في الأسواق الدولية، ويحظون بدعم نشط من الغرب الذي لا يسعده شيء أكثر من أن يبيع لهم أسلحة، أو يسترجع بعض تلك الأموال إلى مصارفه أو أنديته الرياضية. هذا بينما على بعد مئات قليلة من الكيلومترات يفتقر بشدة بلد بـ 100 مليون من السكان مثل مصر إلى موارد كافية لتعليم أبنائه والاستثمار في البنية التحتية». وبناء على ما تقدم، «يمكن أن نتخيل نظرياً أن من شأن تنظيم ديمقراطي فدرالي للمنطقة أن يحقق توزيعا وتنويعا أفضل للثروة والاستثمارات، على ما جرى تصوره في الماضي، وما يسع صيغة متجددة للجامعة العربية أو لاتحاد عربي أن يجسد في المستقبل». ليس قائل هذا الكلام قومياً عربياً ولا من منظري مدرسة التبعية مثل سمير أمين، وإنما هو الاقتصادي الفرنسي توما بكيتي، أحد أشهر المثقفين والعاملين في مجال العلوم الاجتماعية في العالم اليوم. ورد هذان الاقتباسان في كتابه «تاريخ موجز للمساواة» والمؤلف يلح فيه كما في كتبه الأخرى على إطار عالمي للتحليل والمعالجات، ويدعو إلى تجاوز الدولة- الأمة في اتجاه تكون مجال سيادي عالمي. وهو يؤسس ذلك على تحليل يفيد بأن ثروة الأمم وثروات الأفراد فيها ليستا بحال نتاج مباريات تنافسية عادلة، فـ»إثراء الغرب منذ الثورة الصناعية ما كان يمكن أن يتحقق لولا التقسيم العالمي للعمل والاستغلال المسعور لموارد الكوكب الطبيعية والبشرية». أما ثروات الأفراد فيغلب أن تكون موروثة من آباء أثرياء.
يرى بيكيتي إن من شأن ضريبة 2 في المئة على الثروات التي تزيد على 10 ملايين يورو أن تغل ألف بليون يورو في العام، نحو 1 في المئة فقط من الناتج الإجمال العالمي، ويقترح توزيع هذه الضريبة على بلدان العالم كلها حسب نسبة سكانها. والمثال الذي يعتنقه المثقف الفرنسي هو اشتراكية تشاركية، ديمقراطية وفدرالية، ذات حساسية بيئية ومتعددة الثقافات. وهذه ليست اشتراكية تلغي السوق والملكية الخاصة مثلما فعلت اشتراكيات القرن العشرين الدولتية، بالنظر إلى أن للسوق والملكية الخاصة دوراً تنسيقياً لأفعال ملايين الأفراد، دوراً لا يقتصر بحال على ضمان سيطرة الرأسمال على أولئك الذين لا يملكون غير قوة عملهم، على ما قال في كتابه «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين». ومن ذلك نستدل على أن التعويض الوحيد الممكن عن تلك الفاعلية التنسيقية هو بيروقراطية هائلة تراقب كل شاردة وواردة في تفاعلات البشر الاقتصادية وغير الاقتصادية، على نحو يلغي حريتهم دون أن يكون مضموناً بعد ذلك أن يكون ناجعاً في التنسيق بين أفعالهم وتفاعلاتهم، على ما أظهرت بجلاء الكوارث الإنسانية للتخطيط المركزي من النمط السوفييتي. اشتراكية بيكيتي تقوم على ضمان دخل أساسي لجميع الأفراد، وعلى ضرائب عالية على التركات، وعلى مراقبة ثروات النخب الاقتصادية والجنان الضريبة وشفافية عمليات مالية على الصعيد العالمي.
من شأن تنظيم ديمقراطي فدرالي للمنطقة أن يحقق توزيعا وتنويعا أفضل للثروة والاستثمارات، على ما جرى تصوره في الماضي
وإنما على أرضية هذا المثال الاشتراكي التشاركي، ذي الإطار العالمي والحساسية البيئية والثقافية، زكى بكيتي تنظيماً اتحادياً لمنطقتنا، تتوزع فيه الموارد بصورة أفضل، وتتنوع الهياكل الإنتاجية. تبدو مثل هذه الدعوة اليوم نداء من الماضي، وإن لم تأت من جهة من سارت بلدانهم، مصر وسوريا ولبنان واليمن والسودان، فضلاً عن فلسطين، وحتى العراق وليبيا النفطيين، إلى كوارث من كل نوع، بل من اقتصادي أجنبي يتناول البنى الاقتصادية والسياسية العالمية ولا تكاد منطقتنا تحتل مكانة خاصة في تحليله، ربما إلا كمثال إضافي لبيان المفاعيل السلبية لغياب المساواة التي خصص لها كتابه. وهو، بالمناسبة، يرى داعش أحد المشاريع الرجعية التي تنتفع من إصرار الفاعلين في المنطقة على التمسك بالأمر الواقع على الصعيدين الجغرافي والاقتصادي. ليست اعتبارات إيديولوجية ما تحرك تحليلات وتقديرات بيكيتي (وتزكية كاتب هذه السطور لها) بل اعتبارات الاستقرار والعدالة على المدى الأطول. المجال العربي متفاعل في كل حال، لا يحتاج إلى شهادة الإيديولوجية القومية لإثبات ذلك. وهناك بالفعل ضروب من إعادة التوزيع، تتولاها الأطقم الأوليغاركية الريعية في صورة منح فوقية، إلى حكومات بالغة الفساد والطغيان، وفي انفصال تام عن أفق تكاملي. آخر أمثلتها مليارات لدعم نظام السيسي بتنسيق أوروبي خليجي، للحيلولة دون انهيار مصري واسع وموجة لجوء كبرى. ما يغيب عن تحليل بكيتي التخطيطي هو الحاجة الأساسية لتحول نظم السلطة في المجال الشرق أوسطي، العربية وغير العربية، بما فيها في هذا الشأن إسرائيل وإيران وتركيا، في اتجاه ديمقراطي ودستوري. وهذا شأن يبدو عويصاً اليوم بعد فشل الثورات العربية، والمعنويات الطيبة للنظم التسلطية في كل مكان، وغياب قوى الدفع الديمقراطية الداخلية والخارجية. لكن لا يبدو أنه يمكن السير في اتجاه اتحادي يوزع المواد وينوعها على صعيد إقليمي، مثلما يدعو بيكيتي، دون تحول مواز على مستوى نظام السلطة وظهور نخب حكم منتخبة، تستمد شرعيتها من أدائها وليس من الوراثة أو المزايدة الإيديولوجية. لا يعود السير في هذا الاتجاه بمكاسب محتملة على البلدان الأفقر وحدها، بل هو ضمان استقرار في رفاه في منطقة أوسع، بما في ذلك في بلدان الخليج الميسورة. وفي هذا الشأن ربما يغيب شيء آخر عن تناول بيكيتي يتصل بنظام أمن إقليمي، بما يوظف إيجابياً في علاقات الجوار والتقارب البشري، ويحد من التدخلات الخارجية، ومن الحروب العدوانية داخل المنطقة. بهذه الإسرائيل العنصرية والمتعجرفة التي هي عبء دائم على منطقة بالكاد بدأت تتلمس طريقها حين تخلّق هذا الكيان، وبهذه الإيران التوسعية التي تجمع بين الإمبراطورية والطائفية، وبهذه التركيا القومية المتشددة، وبهذه الإمارات التي تسوق حداثة فاشية، بلا سياسة ولا نقاش ولا مجتمع، لا تبدو آفاق المنطقة مفتوحة إلا على مزيد من الحروب والدمار والمعاناة.
وعليه، يبدو أنه لا بد من ثلاث عمليات متكاملة من أجل عقلنة الأوضاع في الإقليم. أولها تحولات على مستوى أنماط ممارسة السلطة في اتجاهات أكثر دستورية ومسؤولية؛ ثم السير نحو نظام أمن إقليمي يقطع مع ما صار طبيعة ثانية للشرق الأوسط أكثر حتى من اللامساواة: العنف والعدوان وقانون الغاب والكراهيات المتأججة؛ وأخيراً التكامل الإقليمي الذي يدعو إليه بيكيتي من منظور ضمان مساواة أكبر. هذا كله مضنٍ، وتسير عكسه تماماً استعدادات الفاعلين المؤثرين في المنطقة وفي العالم. لكن إن كان من فرص للحياة ذاتها، وليس للمساواة وحدها في مجالنا، فهو يمر بـ«نفضة» عميقة تعيد تشكيله، ويمتنع أن تتوافق مع الاستعدادات القائمة اليوم.
وقد يكون في ما يميز الاشتراكية، في صورتها عند بيكيتي كما في صورها الأقدم، من منظور فوق وطني، ما يصلح ركيزة لنقد جذري لأوضاع انعدام المساواة في الدخول والحرية والأمن في المنطقة. هذا أفق يستحق أن يعاد استكشافه اليوم.
عذراً التعليقات مغلقة