قام من سُباته المبعوثُ الأممي إلى سوريا “غير بيدرسون”، فأصدر في منتصف الشهر بياناً بالتزامن مع ذكرى انطلاقة الثورة السورية، وبعد يومين كان في زيارة إلى دمشق، ثم توّج قيامته بإحاطة أمام مجلس الأمن الذي انعقد للتداول في الأوضاع الإنسانية في سوريا يوم الخميس الماضي، ولعل جلسة مجلس الأمن هي الدافع الوحيد لنشاطه الذي سبقها. في المدى القريب، لا توجد استحقاقات متعلّقة بالشأن السوري، والقوى المعنية به مشغولة حالياً بساحات صراع أخرى. أي أن بيدرسون يستطيع العودة إلى سُباته قريرَ العينين، مطمئناً إلى أنه يقوم بواجبه على أكمل وجه.
ضمن المعطيات نفسها، لم تُثر زيارة بيدرسون إلى دمشق ردود أفعال تشي بفعالية ما لها. لم تكن هناك تصريحات راضية أو غاضبة من جهة مسؤولي الأسد، أو من وسائل إعلامه. وكان جدول الزيارة قد تضمّن لقاءين مع السفيرين الإيراني والروسي في دمشق، ويبدو أنهما أيضاً كانا ضمن اللقاءات الروتينية، فلم يكن لدى بيدرسون مطالب منهما كي يمارسا دورهما المعتاد في إرسال وفد الأسد إلى مفاوضات اللجنة الدستورية ليسوّف هناك ويعطّل المفاوضات على النحو الهزلي المعتاد.
بل، بخلاف مرات سابقة، لا يجد الأسد نفسه مضطراً إلى رفض جولة جديدة من اجتماعات اللجنة الدستورية، بما أن موسكو تولّت ذلك منذ إعلانها “عقب غزوها أوكرانيا” أن سويسرا لم تعد مكاناً محايداً لانعقاد اجتماعات اللجنة. لذا اكتفت صحيفة الوطن الموالية بنقل تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين للصحافيين، وتنصّ على البحث عن مكان بديل لاجتماعات اللجنة، فيما يبدو أنه ردٌّ على طلب بيدرسون عقدها مجدداً في جنيف. جدير بالذكر أن فيرشينين أدلى بتصريحه على هامش الدورة السابعة والستين للجنة الأمم المتحدة المعنية بالمخدرات، وهي “للمصادفة” مناسبة غير بعيدة إطلاقاً عن الاتهامات الدولية الموجَّهة للأسد بخصوص تجارة الكبتاغون.
وكان بيدرسون قد دعا إلى انعقاد الجولة التاسعة للجنة الدستورية في 21 آذار الجاري، ثم عاد ودعا إلى انعقاد الجولة العتيدة في الشهر المقبل. ومن المعلوم أن الجولات السابقة لم تحقق أدنى تقدّم، ولا أدنى تفاهم على الخطوط العامة للدستور المقبل أو حتى على برنامج محدد للقاءات الجارية تحت مسمّى “مفاوضات”. وكانت الهيئة العليا للتفاوض المعارِضة قد أعلنت موافقتها على دعوة بيدرسون، وهي موافقة لا تعكس أجواء المعارضة غير المكترثة أيضاً باجتماعات اللجنة، إلا أنها ضرورية لتثبت الهيئة وجودها وأنها جاهزة لمتابعة دورها في المسلسل الممل.
واللجنة الدستورية هي “إنجاز” بيدرسون الوحيد، وقد استلهمه من اتفاق ثلاثي أستانة، ولم تعارض واشنطن الأخذ به ضمن تواطؤ على إيجاد إطار يمكن التلطّي وراءه والزعم أن الكارثة السورية تحظى باهتمام أممي. وقد تم إطلاق اللجنة في نوفمبر 2019، في عهد المبعوث الأممي الحالي الذي أتى خلَفاً للمبعوث دي مستورا. وكان دي مستور قدّم استقالته في صيف 2018 بعد انقضاء أربع سنوات في منصبه، لكنها لم تكن نهاية عهده مع البيروقراطية الأممية، فهو قد تسلّم منصب المبعوث الأممي الخاص في الصحراء الغربية بدءاً من أكتوبر 2021.
بعبارة أخرى، وُجِّهت انتقادات كثيرة إلى دي مستورا بوصفه واجهة للّامبالاة الدولية إزاء المقتلة السورية، ورغم “سعة صدره وصبره” فهو قد قرر الاستقالة من الشأن السوري بعد أربع سنوات من انعدام فعاليته كمبعوث أممي. في حين لا يبدو خليفته معنياً بالاحتجاج على انعدام مبررات وظيفته، بل إن كل ما يصدر عنه يفيد بأن الرجل منسجم جداً مع ظروف “بطالته” السياسية، ومقتنع بتكرار أقواله في مجلس الأمن الذي يناقش دورياً الأوضاع الإنسانية في سوريا، ويتكفّل أداء المندوبين أثناء الجلسة بالإفصاح عن انعدام أفق الحل.
والحديث عن البطالة المقنَّعة للمبعوث الأممي ومكتبه يذكِّر “بلا مبالغة شديدة” ببرامج ومسلسلات سورية قديمة تسخر من موظّفي القطاع العام في تلك الأيام، وتُظهر بنمطيةٍ موظّفين غارقين في النوم على مكاتبهم وموظّفات منهمكات في إعداد التبّولة. لكن موظّفي تلك البرامج والمسلسلات لم يكن عملهم في أسوأ الأحوال مرتبطاً بحيوات البشر وبمستقبلهم على النحو الذي يمكن قوله عن موظّفين دوليين كبار، وكان الأساس في بطالة هؤلاء أنهم يقبضون أجوراً لا تزيد عمّا يمكن احتسابه تعويض بطالة، بينما يقبض موظّفو الأمم المتحدة الكبار رواتب مرتفعة يجب مطالبتهم بأداء متناسب ولو قليلاً معها.
أي أن السيد بيدرسون غير مطالب بما يفوق طاقته، ومن المطالب المتواضعة أن يحترم عقول السوريين ومتابعي الشأن السوري فلا يكرر القول عن كونه ميسِّراً للمفاوضات بين السوريين وأن هذه المفاوضات يجب أن تبقى بمُلكية سورية. ثم بعد ذلك التأكيد يعود إلى التلميح تارةً أو التصريح كما في جلسة مجلس الأمن قبل يومين بأن “الخروج من الأزمة يحتاج أيضاً إلى مساهمات الجهات الدولية الفاعلة التي تلعب دوراً كبيراً في سوريا اليوم، وتنازلات من جميع اللاعبين السوريين والدوليين”.
في الجلسة نفسها، قالت مساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية ونائبة منسق الإغاثة في حالات الطوارئ “جويس مسويا” إن قرابة 13 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات غذائية، و”إن معدل سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة ارتفع بمقدار ثلاثة أضعاف خلال السنوات الخمس الماضية، ونتيجة لذلك سيحتاج أكثر من نصف مليون طفل إلى علاج منقذ للحياة من سوء التغذية الحاد هذا العام”. ونبّهت السيدة جويس إلى أن تمويل المساعدات لسوريا انخفض إلى الثلث حيث اضطر برنامج الأغذية العالمي إلى خفض مساعداته الغذائية الطارئة ليتم تقديمها إلى مليون شخص فقط شهرياً بدلاً من ثلاثة ملايين، وأفادت بأنه في شمال غربي سوريا أُجبر أكثر من 30 برنامجاً للتغذية العلاجية للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية على الإغلاق منذ أكتوبر الماضي.
في المجمل، قدّمت السيدة جويس إحاطة جيدة حول تدهور الوضع الغذائي والدوائي في سوريا، ورغم العديد من اتهامات الفساد والتواطؤ مع الأسد الموجَّهة إلى منظمات الإغاثة الأممية في سوريا، إلا أن وجودها ضروري، وهي تنقذ أرواح الملايين بالمعنى، ومن غير الوارد على أية حال مطالبتها بالإضراب عن نشاطها احتجاجاً على تراجع الاهتمام الدولي. إلا أن إحاطة جويس، وقد سمعها بيدرسون، حريٌّ بها أن تدفعه إلى اتخاذ موقف جاد كي لا يظل وجوده غطاءً سياسياً للكارثة واستمرارها، فاستقالته احتجاجاً على ذلك لن تخلّف أدنى أثر على الشأن السوري، وقد لا تخلّف أثراً سلبياً حتى عليه، إذ ربما يدعم بقاؤه في منصبه حتى الآن فرصةَ تكليفه بمنصب أممي آخر.
عذراً التعليقات مغلقة