تقدّم حرب الإبادة الجارية في غزة اليوم عرضاً جديداً عن الحقيقة التي تسم عصرنا، وهي إمكانية وجود تفاوت هائل في القوة بين الأطراف المتصارعة، نظراً إلى التفاوت الحاصل في القدرات الاقتصادية والعلمية، وتسخير العلم لخدمة المجال العسكري. نسف هذا الواقع التوازن التقليدي بين المتصارعين بصورة جذرية، وجعل من الممكن أن يكون مثلاً عدد الضحايا في طرفٍ من الصراع يعادل عشرات أو حتى مئات الأضعاف عند الطرف الآخر، وينسحب الأمر نفسُه على الخسائر العُمرانية والمادية.
بفعل التفاوت الكاسح الحديث في القوة بين المتصارعين، ظهرت النظريات العسكرية التي تتحدّث عن خطط الحرب غير المتكافئة (asymmetric warfare). لا يجد أصحاب الحقّ الضعفاء سوى تنفيذ عمليات عسكرية مبعثرة، هدفها الضغط على العدو القوي عبر إيلامه، الأمر الذي يتفاعل معه العدو القوي بأن يرتدّ، ضد مجتمع أصحاب الحقّ، بقوة ساحقة يذهب ضحيّتها، بشكل أساسي، المدنيون والعمران المدني، ذلك أن الجماعات التي تُصارعه وتؤلمه ليست جيوشاً نظامية، ولا تمتلك أبنية ومؤسّسات عسكرية تقليدية تكون أهدافاً لترسانته الحربية، فتراه يقصف المستشفيات والمدارس ومحطّات الكهرباء والأبنية السكنية، وفي أحيان غير قليلة يقصف تجمّعات بشرية عارية (قوافل لنازحين، أو أماكن تجمّع لهم)، في “تدمير شامل” غايته الردع بالإبادة.
والحقيقة أن الأسلحة التي تُجنّد لها أعلى القدرات العلمية وترصد أعلى الطاقات الاقتصادية من أجل تطويرها، والتي تشكّل الفارق الحاسم بين الدول، هي أسلحة دمار شامل، أي أسلحة تحيل الكلام عن التمييز بين المدنيين والعسكريين، حتى في الصراع بين جيوشٍ نظامية، إلى كلام فارغ. وهي الأسلحة التي تتسابق الدول لحيازتها، وإن على حساب جوع السكان وبؤسهم. على هذا، ينتقل العالم من توازن القوة إلى توازن الرعب، الرعب من الفناء.
التحالف بين العقلانية العلمية الصارمة التي تعبّر عن نفسها في أحدث منتجات التدمير العسكرية واللاعقلانية الغريزية هو من ميزات هذا العصر
أفسحت التكنولوجيا العسكرية الحديثة مجالاً واسعاً أمام اللاعقلانية. إذا كانت الأفكار الجنونية يمكن أن تخطُر للمرء دائماً وعلى مر العصور، فإن الإمكانات العلمية والمادّية المتاحة كانت دائماً لا تسمح بتحقيق اللاعقلانية والجنون، قبل العصر التقني الحديث. محدودية القدرات كانت تحدّ من جنون الحاكمين. أما اليوم فإن التحالف بين العقلانية العلمية الصارمة التي تعبّر عن نفسها في أحدث منتجات التدمير العسكرية واللاعقلانية الغريزية الجنونية المتمثلة في سياسات الإبادة والتهجير القسري، هو من ميزات هذا العصر. هكذا، نشهد تطوّراً علمياً كبيراً ومذهلاً يجاوره، أو يوازيه، انحطاطٌ أخلاقي كبير ومذهل أيضاً.
الفظاعات والمآسي غير المسبوقة التي ولدتها الحربان العالميتان في منتصف القرن الماضي، وكانت الخسائر متبادلة بين طرفي الصراع بسبب تقارب القدرات العسكرية، قادتا البشرية إلى الوقوف مع ضميرها، وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان الالتزام به، بما يجعل الالتزامات الإنسانية الأخلاقية مواكبة للتطوّر العلمي الذي راح يترجم نفسه في المجال العسكري على شكل أسلحةٍ فتّاكة، تتيح لرجلٍ مثل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة، هاري ترومان، أن يقرّر حكم الإعدام وينفذه بحقّ مئات آلاف البشر اليابانيين في لحظات. غير أن نزوع الأقوياء إلى السيطرة واحتقار “حقوق الإنسان” لم يكفّ عن السعي من أجل تبرير ذاته أخلاقياً أيضاً. لم تجد جامعة إنكليزية عريقة مثل جامعة أكسفورد، مثلاً، مشكلة في منح ترومان، بعد سنوات قليلة (1956) من قرار الإبادة الذي اتّخذه في نهاية الحرب العالمية الثانية، شهادة دكتوراه فخرية، وذلك بشبه إجماع من هيئة الإدارة (اعتراض عضو واحد). في هذا ما يعكس السعي إلى التطبيع مع القتل، حين يكون على يد الأقوياء، ويعكس سعي هؤلاء إلى السيطرة على الأخلاق وليس فقط على الأرض، أو قل إلى صناعة أخلاق ومعايير مناسبة لصناعة أسلحة القتل العام والدمار الشامل.
ألا يُعامَل أهل غزة اليوم كأنهم مادة صماء لا حاجة بها إلى المستشفيات والمواد الغذائية والصحية أو إلى السكن والنور؟
العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، هو العام نفسه الذي يعتبره الفلسطينيون والعرب عام النكبة، لأنه شهد عمليات قتل وتهجير قسريٍّ واسعٍ في فلسطين تنفيذاً لخطّة وضعتها عصابات صهيونية (الخطة دالت)، التي استغرق تنفيذُها ستة أشهر ونتج عنها ترحيل نصف سكان فلسطين الأصليين، حسب كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” للمؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، الذي يستشهد في مقدّمة كتابه بقول ديفيد بن غوريون أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في 1938، “أنا أؤيد التهجير القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي”.
تطوّرت وسائل القتل والتهجير القسري كثيراً منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى السلاح النووي (وقد هدّد الإسرائيليون صراحة باستخدامه في غزّة)، من دون أن تتطوّر في مواكبتها قوة أخلاقية كافية كي تحمي البشر من شرّ البشر. التهجير القسري الذي اضطلعت به عصابات بأسلحة بسيطة، باتت تتولاه دولة حديثة بجيشٍ مجهّز بالأسلحة الأكثر تطوّراً، جيش حديث ولكن قادته لا يرون، على غرار بن غوريون قبل أكثر من ثمانية عقود، في التهجير القسري شيئاً غير أخلاقي. يعيد هذا الواقع إلى الذهن ما قاله عبد الوهاب المسيري في كتابه “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ” إن “الظاهرة المشتركة بين النازيين والصهاينة هي عقلانية الإجراءات والوسائل ولاعقلانية الهدف”. ويذكُر المسيري في الكتاب كيف أنه لم يكن مسموحاً للجنود الألمان بإساءة معاملة اليهود في طريقهم إلى غرف الغاز، معلّقاً على ذلك بقول فظيع “فعملية الإبادة يجب أن تتم بحياد علمي رهيب، يشبه الحياد الذي يلتزمه الإنسان تجاه المادّة الصمّاء في التجارب المعملية التي تتخطّى حدود الخير والشر”. ألا يُعامل أهل غزّة اليوم كأنهم مادّة صمّاء لا حاجة بها إلى المستشفيات والمواد الغذائية والصحية أو إلى السكن والنور… إلخ؟
مع ذلك، يعمل العقل المنتج لهذه اللاعقلانية التي تتجلّى بشتى الصور الرهيبة في غزّة اليوم، على “عقلنة” لاعقلانيته من خلال تسويقها في مغلفات عقلانية مقبولة مثل “الحقّ في الدفاع عن النفس” و”محاربة الإرهاب”… إلخ، في مسعىً إلى التجاوز المستحيل للهوة الأخلاقية.
عذراً التعليقات مغلقة