يواصل جنود إسرائيليون نشر الصور التي تُظهر تشفّيهم بأهالي غزة، ومنها صور إحراق مواد غذائية بينما أهالي القطاع يكابدون للحصول عليها، أو فيديوهات تفجير أبنية فلسطينية يهديها الجنود إلى أحبائهم. والحدث الذي تكرر هو التقاط أولئك الجنود صوراً لهم مع ألبسة داخلية نسائية نبشوها من البيوت المستباحة، في مشاهد تبدو للوهلة الأولى وكأنها لأشخاص مهووسين أو منحرفين، وهذا الافتراض يسهّل على قيادة الحكومة والجيش الإسرائيليين ردّ تلك الانتهاكات وغيرها إلى أفعال فردية لا تمثّل ما ينتمي إليه أولئك الجنود.
ثمة نصف مفاجأة في ممارسات هؤلاء، إذا اعتبرنا أنهم أذكى من أن يكونوا على شاكلة جنود وشبيحة الأسد الذين ارتكبوا الممارسات ذاتها ضد الثائرين على الأسد منذ آذار 2011. هذا التشابه يدحض حتى الدعاية الإسرائيلية عن تفوقها الحضاري على الجوار، فجنودها “ولو قلّة منهم” يباهون بانتهاك حرمات الآخرين، تماماً على النحو الذي يباهي فيه أولئك الذين يُنظر إليهم كشرقيين متزمتين.
كي يكون الأمر أوضح، التنكيل بالملابس الداخلية للنساء هو رمز لاغتصاب نساء الخصم، في إشارة معروفة وشائعة في الحروب كناية عن مزيد من الإذلال عبر أجساد النساء. استكمال الجريمة بتصويرها، ثم نشرها عمداً على وسائل التواصل، هو استمرار للحرب بوسيلة أخرى غايتها إذلال الخصم ضمن النطاق الواسع الذي تستهدف الصورة الوصول إليه، وإرهابه وإرهاب “جماعته” بإذلالهم على هذا النحو الذي ينتمي إلى ثقافة ذكورية شديدة البشاعة. تصوير المعتقلين الفلسطينيين الذكور وهم بالسراويل فقط لا يخرج عن الإطار السابق لجهة إظهار القدرة على انتهاك أجسادهم، ونشر الفيديوهات والصور لا يخرج عن الهدف ذاته.
ربما ليزول نصف المفاجأة بسبب ظهور هؤلاء كأنهم جنود أو شبيحة الأسد على دبابة إسرائيلية، يجب أن نتذكر أن حرب الأسد على السوريين وحرب نتنياهو الحالية على الفلسطينيين هما من حروب زمن وسائل التواصل الاجتماعي، ووحشية الممارسات هي جزء من ثقافة هذا الزمن. أي أن التصوير والنشر “كاستكمال للحرب” هما في أساس ارتكاب هذه الجرائم، ما يعني شيوعها لأنها تؤدي وظيفة عامة، وشيوع ارتكابها تالياً لأنها لا تعبّر عن هوس أو انحراف فرديين.
على ذلك، من المتوقع تكاثر الوحشية المصوَّرة، وتكاثر عدد مرتكبيها، على الضد مما سعت إليه البشرية بسنّ قوانين خاصة بالحروب. لا مصادفة في أن حجم توثيق انتهاكات قوات الأسد وشبيحته “بشهادة خبراء دوليين” غير مسبوق على الإطلاق، ومن شبه المؤكد أن حجم توثيق حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية يفوق “بالصورة والصوت” الوثائق المتوفرة عن حروب إسرائيلية سابقة. وحده استخدام هذه الوثائق من أجل تحقيق العدالة لن يلجم تصويرها فحسب، بل سيضع حداً لهذا النوع من الوحشية المدفوع أصلاً بالنشر على نطاق واسع.
لا غرابة في أن تدعم جرائمُ الأسد الجرائمَ الإسرائيلية، خاصة لجهة بقاء جرائمه بلا عقاب، ما يعزز في العقول فكرة الإفلات من العدالة كواقع لا خلاص منه. لكنّ الأسد يستفيد أيضاً من إفلات إسرائيل من العقاب، ويستفيد في أثناء الحرب نفسها من المقارنة التي تُظهره جزءاً من إسرائيليين عديدين في المنطقة لا أكثر، كلما أثبتت إسرائيل أنها على صعيد الهمجية ليست أقلّ أسدية من الأسد.
تبادُلُ المكاسب لا يقتصر على استخدام الجريمة لتبرير الجريمة بالمعنى المباشر فقط، فعلى التوازي كسب الأسد أنصاراً على ظهر الدبابة الإسرائيلية رغم أنهم يجهرون صادقين بآراء مضادة له. وبالتأكيد لا نعني بوجود هؤلاء على ظهر الدبابة الإسرائيلية تخوينهم، بل هو استخدام يتوخّى الدقة من حيث القول أن هناك آراء إزاء الحرب على غزة تستقوي حقاً ومباشرة بالقوة العسكرية الإسرائيلية، وهي الآراء المكتفية بإدانة حماس من منطلق أنها استفزّت ردّ فعل إسرائيلي نرى آثاره المدمِّرة على الفلسطينيين.
أيضاً، هذه هي الحرب الإسرائيلية الأولى التي نشهد فيها وفرة في هذا الصنف بـ”فضل” شيوع وسائل التواصل. ولسنا هنا في صدد مناقشة صواب أو خطأ عملية حماس في السابع من أكتوبر، سواء أكان الخطأ والصواب نسبيين أو مطلقين. كذلك ليس من شأن هذه الحيز الضيق مناقشة أيديولوجيا حماس، وصِلاتها الفكرية والعملياتية بتيارات الإسلام السياسي في المنطقة. في هذا كله مساحة للرأي ينبغي احترامها بشدة، وعدم التفريط فيها في أسوأ الأوقات.
ما نذهب إليه، كمتضررين مباشرين، هو أن أي موقف مبني سلفاً على الإقرار بسياسة العقاب الجماعي، ولو بوصفها واقعاً يصعب تغييره، هو موقف يناصر الأسد. لسنا بحاجة للعودة سنيناً إلى الوراء، فمثل هذا الموقف يدعم الآن مثلاً قصف إدلب بكافة أسلحة الأسد وإيران وروسيا، وإبادة أهلها، من أجل القضاء على جبهة النصرة. وقد يستقوي أصحابه بالقول ضمناً أن الذين سيتعرضون للعقاب الجماعي إما أنهم من أنصار الجولاني ولا بأس في استهدافهم، أو أنهم تخاذلوا عن تغيير الجولاني بأنفسهم ما حتّم مجيء التغيير من الخارج. بل إن هذا الموقف يدعم قصف الاعتصامات السلمية في السويداء، ويحمّل المعتصمين المسؤولية عن كونهم ضحايا القصف لأنهم استفزوا الأسد مع درايتهم بأنه لا يتورع عن إبادتهم.
الإقرار بأحقية العقاب الجماعي، ولو من باب الواقعية، قد يبدو لوهلة استثناءً إذ ينصرف إلى احتساب الشرق الأوسط برمّته استثناءً. إلا أنه عملياً يدعم انعزال المنطقة عن العالم تحت مظلة الاستثناء، ويدعم تخلّي أبنائها عن المطالبة بالعدالة بوصفهم أبناء للعالم ككل، وبوصف السعي إلى العدالة مشروعاً عالمياً أيضاً. ومن نافل القول أن الحديث عن المنطقة والعالم لا يهدف إلى إقامة فصل جغرافي أو حضاري بينهما، لأن الفصل المعنيّ في هذا السياق قائم على القيم، والانتساب إلى مسعى العدالة يضع أصحابه مع قوى عالمية مؤمنة به، على الضد من قوى عالمية تسعى لتكريس مختلف أنواع الهيمنة واعتبارها من طبائع الحياة.
المنطق نفسه يعمل استباقياً فيقارن مواربة أو صراحة بين عواقب التمرّد وفضائل الاستكانة، عندما يكون الخصم مالكاً القوة ونوايا البطش بها. لقد كان أنصار للأسد سبّاقين إذ اختزلوا هذه الأفكار بتعبير عامّي هو: كنا عايشين. ويقصدون به أن الأحوال قبل الثورة كانت أفضل مما حدث بسببها، ونستطيع اليوم الموافقة بلا تحفّظ على أن ما كان قبل آذار 2011 أفضل بالتأكيد من إبادة مئات الألوف وتهجير الملايين وتدمير البلد. إلا أن هذا الكلام يحصر خيارات ملايين البشر في سيء وأسوأ، ولا يقول شيئاً على الإطلاق عن حقوق الذين ثاروا من أجل حياة أفضل؛ عن أولئك الذين قرروا أنهم ليسوا محض كائنات بيولوجية تكتفي بلقمة عيش؛ الذين “بعبارة أخرى” قرروا أنهم يستحقون أن يكونوا كائنات سياسية.
إذا كان من احترام حقيقي “غير خبيث أو مزعوم” لحيوات الضحايا فيجب أن يكون متكاملاً بحيث يلحظ الحفاظ عليها بالمعنى المباشر، وإدانة كافة المتسببين بهلاك أصحابها، ويلحظ حتى في أوقات المجزرة حقوق هؤلاء الضحايا في مقاومة إعادتهم مرة تلو الأخرى إلى كائنات بيولوجية. الموافقة على بقائهم عند مستوى الكائن البيولوجي تعني أن هؤلاء يستحقون العبودية لا غير، وأصحاب هذه النظرة ينتمون مع الأسف إلى عالم اليوم أيضاً، تحديداً إلى أسوأ ما في اليمين المتطرف والشعبوي الغربيين. يا لفرحة الأسد بهم!
عذراً التعليقات مغلقة