يتناثر الحديث عن مشروع سلام شامل في الشرق الأوسط، تتفاهم بشأنه بعض الأطراف الدولية والإقليمية، بل ثمّة من يذهب إلى أن إطار هذا المشروع بات جاهزاً، وأن ما يجري في العواصم العربية والدولية تعديلات تفصيلية هنا وهناك، لتتناسب مع مصالح الأطراف المعنية وتفضيلاتها.
بدأ الحديث عن هذا المشروع يتبلور في نهاية العام الماضي، أي بعد بدء الحرب في غزّة بشهرين، ونتيجة مخاوف الفاعلين الدوليين من انفجار الأوضاع في المنطقة على خلفية الوقائع الصادمة التي تشهدها غزّة، ووصول التطرّف الإسرائيلي إلى حد تجاوز كل منطق سياسي وعسكري، من خلال طرح تهجير سكان غزّة أو إبادتهم، والخوف من التفاعلات السلبية التي قد تُنتجها الديناميكيات الصاعدة في المنطقة.
جابت عشرات الوفود الدولية عواصم المنطقة، بالإضافة إلى حراكٍ بيْني في العالم العربي، ومفاوضات سرّية تجري في بعض العواصم العربية، ومفاوضات بين مندوبين دبلوماسيين، غير أن ما رشح عن هذه الديناميكية لا يتعدّى وجود تصوّرات عن حل سياسي للقضية الفلسطينية، يتمثل بحلّ الدولتين، لكن ما هي حدوده، وما هي شروطُه، فالأمر ما زال في طور التفاوض.
إسرائيل في وضع يسمح لها بالمناورة ومواجهة أي ضغط إقليمي ودولي، إذ هو في الأصل غير موجود بدرجة كافية
لكن السؤال البديهي في ظلّ المعطيات الراهنة؛ ما الذي يدفع حكومة إسرائيل الموصوفة بالأشد تطرّفاً في تاريخ الكيان إلى قبول صفقة سلام، في وقتٍ تعمل فيه على هندسة الواقع الفلسطيني في غزّة أولاً والضفة الغربية ومناطق الخط الأخضر ثانياً، من دون وجود أي ضغط عربي أو دولي، أو بلغة أكثر تحديداً، من دون أوراق تفاوضية يملكها هؤلاء في مواجهة حكومة نتنياهو؟ وهل تختلف الظروف الحالية عن المناخ الذي تمّت فيه صفقة أوسلو في تسعينيات القرن الماضي؟
بحسب المعطيات الراهنة، إسرائيل في وضع يسمح لها بالمناورة ومواجهة أي ضغط إقليمي ودولي، إذ هو في الأصل غير موجود بدرجة كافية تجعلها تخضع لشروطه ومتطلباته. وانطلاقاً من ذلك، تمارس تكتيكات إجهاد الطرف الفلسطيني المقاوم واستنزاف قوته وزيادة حجم المعاناة على حاضنته الشعبية، بالقدر نفسه، تمارس سياسة الابتزاز تجاه دول الجوار وتدفعها إلى موقف دفاعي خوفاً من تهجير الفلسطينيين إليها.
على ذلك، لا يبدو السياق الحالي محفّزاً لحكومة نتنياهو على السير في خطّة سلام مع الفلسطينيين، فقد استطاعت، عبر السنوات الماضية، تحييد تطبيع علاقاتها مع الدول العربية من سياق صراعها مع الفلسطينيين، ما أفقد العرب، قبل الفلسطينيين، من وزنهم وتأثير نتيجة حسابات ضيقة إلى أبعد الحدود، ومن دون إدراك أن العامل الفلسطيني بالنسبة للعرب، وإنْ لم يكن مصدر قوّة، يشكّل التخلي عنه انكشافاً خطيراً لهم تجاه القوى المتطرّفة داخلياً وإيران إقليمياً وإسرائيل وأميركا دولياً، إذ من دون البعد الفلسطيني يصبح أي فاعل عربي في تفاوضه مع إسرائيل، حتى واشنطن، من دون مساند حماية، ومجرّد طرفٍ مطلوب منه التمويل أو ضخّ النفط أو تحقيق انفراجاتٍ في مجال حقوق الإنسان، وهو أمر أدركته إيران جيّداً، وتعرف كيف توظفه في خدمة مشروعها الجيوسياسي في المنطقة.
من دون البعد الفلسطيني يصبح أي فاعل عربي في تفاوضه مع إسرائيل، حتى واشنطن، من دون مساند حماية
السؤال الآن، هل هذه الظروف مناسبة للتفاوض بشأن حلٍّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بين طرفٍ يسعى إلى إنقاذ وجوده من خطر الفناء والتهجير، وطرفٍ آخر يرسم ويخطّط ليوم تالٍ يحصل فيه على الجوائز الكبرى المتمثلة بإعادة المستوطنات إلى غزّة، والحصول على ترتيباتٍ أمنية تضمن أمنه وسلامه لأجيال قادمة؟ ثم هل ثمّة ملامح استشفّها القائمون على تصميم صفقة السلام، عن تغيّر في النسق العقدي لدى عتاة المتطرّفين في حكم إسرائيل؟ هل وصلوا إلى إدراك أن السلام أقلّ تكلفة من الحرب إلى درجة أن الوصول إلى تسوية ستكون مكسباً لهم؟ الجواب بالطبع لا، ولن يجري الوصول إلى هذه المرحلة، وأي صفقة سلام يجري العمل عليها، بناء على الوقائع لن تكون سوى القضاء على ما تبقّى من حلم إقامة الدولة الفلسطينية.
تحتاج صفقة السلام الموعودة، لكي تحقّق للفلسطينيين الحصول على حقوقهم إلى متغيّرين، الأول: انسحاب أميركا من المنطقة، وانكفائها نهائياً عن التفاعلات الحاصلة فيها، عندئذ ستبحث إسرائيل مرغمةً عن البحث عن بدائل تؤمّن لها الاندماج في المنطقة وتؤمّن لها الحماية، في ظل واقع تغيّرت فيه معايير قوة الدول وظهور أنماط جديدة من الأسلحة اخترقت كثيراً التوازنات السابقة. الثاني: تجميد العلاقات العربية مع إسرائيل، ووقف تنفيذ الاتفاقيات معها، وثمّة فرصة مناسبة لعمل ذلك، تتمثل أولاً بأفعال إسرائيل التي تجاوزت الحد تجاه شعب عربي شقيق، وإدانة محكمة العدل الدولية ممارسات إسرائيل، وهي مرجعية مهمّة للقانون الدولي، بالإضافة إلى رأي عام عربي، كشفته عدة استطلاعات للرأي، يؤيد قطع العلاقات مع إسرائيل، وسيشكّل هذا الموقف ورقة تفاوضية مهمة بيد الدول العربية في مواجهة إسرائيل قد تتحصل منه على مكاسب أمنية وسياسية تحصّلها من واشنطن، مقابل صفر خسارة قد تلحق بها جرّاء تجميد علاقاتها مع إسرائيل.
إلى حين تحقق هذين المتغيرين، أو أحدهما، تبدو أحاديث السلام وصفقاته نوعاً من الألعاب التي تعمل إسرائيل إلى استدراج الآخرين للتورّط بها، ولتحقيق مكاسب يبدو أنها غير قادرة على تحقيقها بالحرب وحدها.
عذراً التعليقات مغلقة