قد لا نجانب الموضوعية كثيراً إذا قلنا إن الزعيم المعارض السوري رياض الترك قد رحل حين بقي «عاطلاً عن العمل» أو «متقاعداً» بصورة قسرية. فقد عاش حياته المساوية تقريباً لحياة الكيان السوري منغمساً في السياسة، فاعلاً نشطاً فيها، على رغم نحو عشرين عاماً أمضاهاً في السجون، منها نحو 18 عاماً متصلة بين 1980 و1998، وقد نال نصيبه من الاعتقال في عهد بشار الأسد أيضاً حين خرج على الإعلام، بعد وفاة حافظ الأسد، وقال: «مات الدكتاتور!» ليتبعه بعبارة «لن أنتخب بشار الأسد!».
ولد الترك قبل نيل سوريا استقلالها، وانتسب إلى الحزب الشيوعي السوري في عمر مبكر، واعتقل في عهد الوحدة بين سوريا ومصر، وقاد تحولاً فكرياً في الحزب منذ أواخر الستينيات، بالتوازي مع التداعيات الاجتماعية والفكرية لهزيمة الخامس من حزيران 1967، نحو استقلالية أكثر عن المركز السوفييتي واقتراب من الأفكار القومية، لينشق عن الحزب الذي كان يقوده خالد بكداش رفقة أكثرية في المكتب السياسي، ثم يعتقل في ذروة الصدام بين السلطة والطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، ويمضي نحو 18 عاماً من عمره في زنزانة منفردة، ثم يخرج في العام 1998 ليعود بلا إبطاء إلى حزبه. ومع وفاة حافظ الأسد في العام 2000، سيرى أن الوقت بات يتطلب الظهور العلني، فكانت تصريحاته المشار إليها أعلاه نوعاً من الحاجة إلى رفع سقف القول المعارض على أمل أن يشجع ذلك دوائر لعلها تزداد اتساعاً في المجتمع، مستنداً في ذلك إلى رصيده الوطني المعارض.
كان اعتقاله مجدداً في شهر أيلول 2001، وعدد من معارضين آخرين، إيذاناً بانتهاء ما سمي بـ»ربيع دمشق» الذي لم يتجاوز السنة الواحدة. بعد خروجه انهمك مع رفاقه في الإعداد لمؤتمر الحزب الذي تم عقده في 2005 وخرج منه بتغيير اسمه إلى «حزب الشعب الديمقراطي في سوريا» مع وثائق وضعت الانتقال إلى نظام ديمقراطي في مركز اهتمامها، مع تخلٍ غامض عن الإيديولوجيا الشيوعية. صحيح أن الترك لم يعد أميناً عاماً للحزب، لكنه احتفظ بوزنه ونفوذه فيه ليستمر في طبع الحزب بطابعه ويشكل المرجعية الحقيقية في رسم سياسته، الأمر الذي أثار حفيظة بعض أعضاء الحزب وكوادره وشكل سبباً لانشقاق عدد منهم في فترات مختلفة. واتُهم الترك أيضاً بأنه الموجّه الرئيسي لتحالف «إعلان دمشق» الذي شارك في تأسيسه مع قيادات أحزاب معارضة ومعارضين مستقلين في العام 2005.
مع وفاة حافظ الأسد في العام 2000، سيرى أن الوقت بات يتطلب الظهور العلني، فكانت تصريحاته المشار إليها أعلاه نوعاً من الحاجة إلى رفع سقف القول المعارض على أمل أن يشجع ذلك دوائر لعلها تزداد اتساعاً في المجتمع
حين اندلعت الثورة في منتصف آذار عام 2011، كان رياض الترك قد استبقها بمقالة نشرت في «القدس العربي» بعنوان «لن تبقى سوريا مملكة للصمت» وذلك على ضوء قراءته لثورات الربيع العربي انطلاقاً من تونس فمصر فليبيا واليمن والبحرين. فكان طبيعياً أن ينخرط في فعالياتها من خلال لقاءاته مع جيل شاب يقتحم السياسة من باب الثورة على نظام الأسد الدكتاتوري، فيقدم النصح ويساهم بتقديم خبرته التنظيمية والسياسية للتنسيقيات في دمشق وغيرها من المدن، والمرجح أنه كان له دور في تشكيل «لجان التنسيق المحلية» وتوجيهها سياسياً. وابتعد في تلك الفترة عن وسائل الإعلام على رغم كثرة منابر الإعلام المعارض التي ظهرت بعد اندلاع الثورة، فقد كان مكتفياً بدوره التوجيهي والاستشاري لشباب الثورة الذين كان يريد أن تكون «الكلمة لهم» بحسب مقابلة نادرة أجراها معه محمد علي الأتاسي، صيف العام 2011.
يمكن القول إنه شارك في تأسيس «المجلس الوطني» السوري المعارض، خريف العام 2011، من خلال مشاركة كل من تحالف «إعلان دمشق» و«لجان التنسيق المحلية» معاً، وممثلي كلا الإطارين في «المجلس» لم يكونا بعيدين عن استشارته كلما تعلق الأمر بتصويت لاتخاذ قرار أو صياغة بيان.
تزامن خروجه من سوريا، في العام 2018، مع سقوط حلب الشرقية بيد النظام بعد أكثر من ست سنوات كانت فيها تحت سيطرة فصائل مسلحة من «الجيش الحر». وكان هذا التاريخ حداً فاصلاً بين مرحلتين من مراحل الصراع في سوريا، اعتبرها البعض تاريخاً لهزيمة الثورة، بعد سيطرة التيار السلفي والسلفي الجهادي على ما تبقى من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وراحت تتقلص باطراد منذ التدخل العسكري الروسي في خريف العام 2015.
بعد خروجه إلى فرنسا ليمضي ما تبقى له من عمر قرب ابنته، أدلى بمقابلة صحافية وحيدة اعتبرها البعض غير موفقة، فقد تحدث فيها عن وجوب تركيز الجهد المعارض على إخراج المحتلين الأجانب من سوريا كأولوية، بدلاً من الأولوية السابقة التي كانت تتمثل في إسقاط نظام بشار الأسد الذي سقط عملياً وإن لم يكرس في إعلان رسمي. ثم غاب عن الإعلام طوال السنوات التالية إلى حين انتشار خبر وفاته مع بداية عام 2024، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (والضفة الغربية) متواصلة بلا توقف منذ ما يقارب ثلاثة أشهر.
الرجل الذي كان فاعلاً في السياسة السورية طوال عمر الكيان السوري تقريباً، لم يعد لديه ما يفعل بعيداً عن بلده الذي لم يعد دولة قائمة بذاتها منذ سنوات، تتقاسم جغرافيته سلطات أمر واقع وقوات احتلال أجنبية، وفشلت الجهود الإقليمية والدولية في ابتكار حل سياسي ينهي هذه الحقبة المديدة السوداء، وفشلت المعارضة في التحول إلى بديل سياسي عن النظام منتهي الصلاحية.
عذراً التعليقات مغلقة