مضى أسبوع على تمرد قوات “فاغنر” بقيادة يغفيني بريغوجين على السلطات الروسية، التمرد الذي فاجأ الكثيرين، ووضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موقف حرج، انتهى التمرد بـ “صفقة” غامضة، وانتهت ما أسماها بريغوجين “مسيرة من أجل العدالة”.
بريغوجين والذي يعرف بـ”طباخ الرئيس” ينحدر كما بوتين من مدينة سان بطرسبرغ، وتعود علاقة الرجلين ا إلى التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان بوتين يعمل في مكتب عمدة سان بطرسبرغ، وكان يتردد حينها على مطعم بريغوجين، الذي ازدهرت أعماله لاحقا وتوسعت بعد إبرام عقود مع الجهات الحكومية بما في ذلك الجيش لتوريد الطعام.
“فاغنر” شركة عسكرية روسية خاصة، وفي دول لا وجود للشفافية او المصداقية فيها، لطالما حاولت السلطات الروسية التنصل من علاقتها بـ”الشركة”، ولكن بريغوجين نفسه كان ينفي سابقا علاقته بمجموعة فاغنر للمرتزقة، حتى أنه سبق ورفع دعوى قضائية ضد صحفيين “زعموا” أنه أسسها.
ظهرت فاغنر لأول مرة في شرق أوكرانيا في عام 2014، عندما دعمت الانفصاليين المدعومين من روسيا في السيطرة على الأراضي الأوكرانية وفي إنشاء جمهوريتين منفصلتين في منطقتي دونيتسك ولوهانسك.
بعد التدخل العسكري في سوريا دعما للنظام السوري، شاع اسم “فاغنر” هناك، وشاركت فاغنر بارتكاب الكثير من الفظائع والجرائم
وبعد التدخل العسكري في سوريا دعما للنظام السوري، شاع اسم “فاغنر” هناك، وشاركت فاغنر بارتكاب الكثير من الفظائع والجرائم، وتحدث أحد مقاتلي فاغنر ويدعى مارات جابيدولين في كتاب أصدره عن العلاقة داخل فاغنر في سوريا وعلاقتها مع قوات النظام السوري من جهة ومع الجيش الروسي من جهة آخرى، حكى عن الأهوال التي ارتكبت في سوريا، وكيف كان بعض مرتزقة فاغنر يطرقون بمطرقة ثقيلة أجساد هاربين من الخدمة العسكرية في الجيش السوري ويقطعون رؤوسهم، وكشف أن ديمتري أوتكين قائد المجموعات العسكرية الخاصة (الذي يحمل لقب فاغنر وسميت المجموعة باسمه) “هو الذي حثهم على القيام بذلك، من أجل ترهيب الفارين الآخرين المحتملين من الجيش السوري”. وتحدث أيضا عن سرقة الأثار والنفط وغيرها من الجرائم التي ارتكبت في سوريا.
كما في سوريا كذلك في ليبيا، حيث شاركت “فاغنر” بالقتال هناك، وتتواجد المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى وفي مالي وهناك معلومات عديدة تتحدث عن تواجدهم اليوم في السودان، وفرضت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على فاغنر بسبب جرائم الاغتصاب والقتل والسرقة التي تمارسها.
واليوم دورها في القتال في أوكرانيا والذي يعود سبب خلاف بينها وبين السلطات الروسية إلى السياسة المتبعة هناك بات معروفا، وفاغنر التي تملك سجلا حافلا بارتكاب الجرائم والانتهاكات مقابل المال، صرح قائدها بريغوجين بعيد وساطة رئيس بلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، وانسحاب قواته من على بعد 200 كم كما ادعى من العاصمة موسكو، “جاء لمنع إراقة دماء الجنود الروس”.
وإن كان تمرد فاغنر غامضا، إلا أن الصفقة التي أنهت التمرد قد تبدو أكثر غموضا رغم أنها وضعت كما التمرد بوتين في موقف لا يحسد عليه، ويصح القول إن روسيا ما قبل ليلة 24 يونيو/حزيران ليست روسيا ما بعدها.
أقل من 12 ساعة فصلت بين خطاب بوتين الذي وصف فيه تمرد “فاغنر” بـ”الخيانة” وتوعده بملاحقة قائدها، وبين منحه بريغوجين ضمانات شخصية للذهاب إلى بيلاروسيا. ومن المؤكد أن بوتين أدرك أن كبار الضباط كانوا متضامنين مع التمرد، حيث وصلت قوات فاغنر إلى مشارف موسكو دون أي مواجهة حقيقة.
روسيا الدولة الخاضعة للعقوبات بسبب سياسات رئيسها المستمرة منذ أكثر من 20 عاما، وذلك الوهم الذي يعيشه أن بلاده هي أحد قطبين يجب أن يتحكما بالعالم بينما شعبه يعاني بسبب العقوبات، لا يبدو بعد أنها فاقت من صدمتها، وقد يأخذ الأمر وقتا.
أن تؤسس دولة شركة مرتزقة للقيام بالأعمال القذرة من قتل ونهب في العالم ليس بالأمر الطبيعي…هذا السلوك لا ينسجم مع سلوك الدولة العظمى التي يجب أن تكون حريصة على حماية الحد الأدنى من الاستقرار والسلام العالمي
أن تؤسس دولة شركة مرتزقة للقيام بالأعمال القذرة من قتل ونهب في العالم ليس بالأمر الطبيعي، وأن تلجأ روسيا الى بيلاروسيا ويظهر بوتين حاجته لوساطة لوكاشينكو أمر يستدعي إعادة النظر بموضع روسيا ما لم تعد هي النظر بسياساتها، ربما نجحت روسيا نسبيا في إثارة الاضطراب والعقبات أمام النفوذ الغربي في بعض الأجزاء من العالم مثل أفريقيا وسوريا، لكن هذا السلوك لا ينسجم مع سلوك الدولة العظمى التي يجب أن تكون حريصة على حماية الحد الأدنى من الاستقرار والسلام العالمي، وتماما مثل روسيا فعلت إيران أيضا عبر توظيف الميليشيات العابرة للحدود في العراق وسوريا ولبنان واليمن حتى بات هذا الشكل من الحروب، أي الاعتماد على قوات عسكرية غير نظامية تمارس كل أنواع الجرائم من تجارة المخدرات إلى التهريب والنهب والفساد وارتكاب الفظائع في القتال، هو أسلوب عمل الدول التي تتحرك وفق منطق إثارة القلاقل في محيطها وتوظيف ذلك لتعزيز نفوذها وهيمنتها.
لقد حول بوتين روسيا من دولة شريكة في النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى دولة بوزن وحجم إيران وهو أمر مؤسف عندما تفقد الدولة العظمى بوصلتها وتتحول إلى مجرد كيان يتحكم به بعض المهووسين بالتوسع الإمبراطوري ولو كان عبر تدمير كل بيئة القانون الدولي. لقد ذاقت روسيا من السم الذي طبخه بريغوجين لصالح سيده، وهذا يثبت مدى خطورة وجود هذه الميليشيات التي لا يضبط سلوكها أي ضابط أو قانون.
عذراً التعليقات مغلقة