السؤال الذي يفرض نفسه وبإلحاح من المراقبين المتابعين أوضاع المنطقة، هو الذي يتمحور حول انعكاسات الاتفاق الإيراني السعودي بوساطة صينية على الأزمات المستعصية التي تعاني منها مجتمعات المنطقة ودولها (خصوصا في العراق وسورية ولبنان واليمن) نتيجة التدخّلات الإيرانية المباشرة وغير المباشرة، وهي تدخلاتٌ تشمل الجوانب العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية بكل ميادينها، وبأوسع صيغها.
فهل ستكون هناك مقاربة مشتركة تهدف إلى بلورة معالم حلول، أو حتى مشاريع حلول، لقضايا المنطقة، أو على الأقل توافقات أولية من الدولتين، الهامتين على مستوى الإقليم، وحتى على المستوى الدولي، في ظل المعادلات والاصطفافات الدولية المستجدّة التي تشكّلت، أو هي في طريقها إلى التشكّل، بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا واحتمالات استمراريتها وتصاعدها وتوسّع نطاقها؟ أم أن الاتفاق المعني لا يتعدّى حدود اتفاق مرحلي تكتيكي، أمْلَته ظروف كل دولة والتحدّيات التي تواجهها في الداخل والخارج؛ واستفادت الصين من الوضع في أجواء انشغال الروس بحربهم الإمبراطورية العقائدية على الأوكرانيين، وتبعثر اهتمامات الأميركان وأولوياتهم بين التركيز على الحرب في أوكرانيا، ومعاينة الأوضاع عن كثب، وتطوّرها، في جنوب شرق آسيا، والشرق الأقصى، خصوصا في أجواء تحرّكات كوريا الشمالية الوظيفية التي تتمثّل في رفع وتيرة تجارب الأسلحة الاستراتيجية، والتحرّش بدول الجوار، وهو الأمر الذي قد يكون في سياق تخفيف الضغط الغربي والأميركي تحديداً على الروس في أوكرانيا؛ هذا إلى جانب حرص الولايات المتحدة على تأكيد وجودها في الشرق الأوسط (الزيارات أخيرا لكل من رئيس الأركان ووزير الدفاع الأميركيين إلى دول المنطقة، والقصف الأميركي أخيرا لمواقع إيرانية في سورية)، رغم كل ما قيل عن نيّاتها بخصوص الانسحاب بناء على تبدّل الأولويات. هذا إلى جانب انشغال الإدارة الديمقراطية الراهنة بمحاولات استيعاب الانقسامات الحادّة التي يشهدها المجتمع الأميركي، وهي الانقسامات التي تؤثر في واقع التوازنات السياسية الداخلية بين الحزبين المتنافسين، واستعداداتهما للانتخابات الرئاسية المقبلة 2024؟
تسعى حكومة أردوغان إلى تفاهمات مع سلطة الأسد انطلاقا من اعتبارات داخلية لها علاقة بتحوّل قضية اللاجئين السوريين في تركيا إلى قضية رأي عام
وبالنسبة إلى السوريين النازحين في داخل بلدهم، واللاجئين في الجوار الإقليمي، ما زال هذا الاتفاق لغزاً يوحي بكل الاحتمالات المتناقضة، فالذي يثير قلق السوريين المنتظرين مآلات الاتفاق المذكور أكثر من غيره يتمثّل في مساعي الانفتاح على سلطة بشار الأسد من بعض الدول العربية وتركيا، ومن دون تأكيدات واضحة تطمئنهم من جهة أن ما يجري لن يكون على حسابهم؛ وإنما سيكون لصالح الوصول إلى حلٍّ لقضيتهم. بل هناك من السوريين المناهضين للسلطة الأسدية ممن يرون أن دائرة ما جرى الاتفاق حوله بين السعوديين والإيرانيين لن تشمل أكثر من تحديد مناطق النفوذ، فبالنسبة إلى السعودية، هناك تركيز واضح على اليمن بعد سنوات الحرب التي استنزفت طاقات وإمكانات كثيرة، ولم تسفر عن نجاحات مستدامة على صعيد حل مشكلات اليمنيين، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. هذا في حين أن إيران ما زالت تحرص على مشروعها التوسّعي باتجاه المتوسّط عبر العراق وسورية ولبنان.
وعلى الضفة الأخرى، تسعى حكومة أردوغان إلى تفاهمات مع سلطة بشّار الأسد انطلاقا من اعتبارات داخلية لها علاقة بتحوّل قضية اللاجئين السوريين في تركيا إلى قضية رأي عام مؤثرة في الانتخابات، سيما في أجواء تصاعد وتيرة النزعة العنصرية في المجتمع التركي تجاه هؤلاء اللاجئين، حتى بات السوريون بصورة عامة يعانون من الضغوط النفسية الهائلة نتيجة النظرة الدونية إليهم، والمطالبات العلنية بتريحلهم؛ تماماً كما هو عليه الحال بالنسبة إلى أشقائهم في لبنان، حيث تحاول السلطات الفاشلة هناك، وحتى بعض القوى السياسية في المعارضة، تعليق دور فسادها في تفاقم الأزمة المعيشية على مشجب اللاجئين السوريين.
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه هنا: هل ستكون هناك صيغة من التوافق والتلاقي بين المساعي التركية بوساطة روسية وبمشاركة إيرانية في الانفتاح على سلطة بشار الأسد والجهود العربية، سيما الخليجية والمصرية؟ أم أن الجانب الإيراني سيفصل بين المسارين، ليكون حاضراً في كليهما، وذلك أسوة بما فعلته إسرائيل في ملف التطبيع مع الدول العربية؟
لا يمكن للسوريين، الذين ينتظرون حلاً شاملاً ينصفهم، عقد آمال كبيرة على الدور الصيني في الاتفاق السعودي الإيراني
ويتناول السؤال الثالث الذي لا يمكن تجاهله في هذا المجال حقيقة الموقف الغربي عموما، والأميركي تحديدا، من كل ما يجري، بغض النظر عن الصيغ العامة المعلنة. واللافت على هذا الصعيد، هو ما يتجسّد في التصريحات الإيرانية والروسية المكرّرة عن الوجود الأميركي غير الشرعي في منطقة شرق الفرات السورية، وفي المطالبة الإيرانية الصريحة بالانسحاب الأميركي من هناك. ولعلّ هذا ما يفسّر واقع التحرّشات الروسية والإيرانية بالقواعد الأميركية الموجودة في المنطقة المعنية، بل وحتى قصف الإيرانيين وأذرعهم لها بالمسيّرات، والرد الأميركي على ذلك.
كما أن سلطة بشار الأسد من ناحيتها ما زالت، على الأقل إعلامياً، تجعل من ضرورة خروج القوات التركية من الأراضي السورية شرطاً لأي مباحثاتٍ سياسية على مختلف المستويات مع الجانب التركي؛ في محاولة لكسب تأييد السوريين والدول العربية.
وبالنسبة إلى الصين، من الواضح أنها تريد أن تأخذاً دوراً يتناسب مع مكانتها الاقتصادية الراهنة وتطلعاتها المستقبلية على المستوى العالمي. وهي تستغلّ مناخات (واحتمالات) الحرب الروسية على أوكرانيا التي لم تتحوّل بعد إلى طرف فيها؛ هذا مع وجود مؤشّرات عدة تبيّن أنها أقرب إلى روسيا منها إلى العالم الغربي وحلفائه، وذلك بناءً على حساباتها الاستراتيجية التي تتعارض مع الحسابات الأميركية. والتناغم الصيني الروسي اليوم ليس جديداً، فقد استخدمت الصين حق النقض في مجلس الأمن مراراً إلى جانب روسيا لتعطيل مشاريع القرارات الخاصة بالوضع السوري التي لم تصبّ في صالح السلطة الأسدية.
وبناء على ما تقدّم، لا يمكن للسوريين، الذين ينتظرون حلاً شاملاً ينصفهم، عقد آمال كبيرة على الدور الصيني في الاتفاق السعودي الإيراني، وهو دورٌ لم يكن له أن يكون، على الأغلب، لولا التفاهم مع الروس.
التفسير الأقرب إلى الواقع لهذا الاتفاق أنه قبولٌ بمخرجات التدخّل الإيراني في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، مقابل هدنة وقتية تكتيكية غير مضمونة العواقب
من جهة أخرى، هناك احتمال أقرب إلى الواقع، استناداً إلى ما توحي به الحسابات والتصريحات الخاصة بالأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري، مضمونه أن الاتفاق المعني لن يؤدّي إلى توسيع النطاق الجغرافي لسلطة بشارالأسد، رغم إمكانية تعويمها عربياً. وهذا فحواه أن الوجود الأميركي في شرق الفرات سيستمر في المدى المنظور؛ وسيستمر كذلك الوجود التركي في غرب الفرات وصولا إلى منطقتي تل أبيض ورأس العين، ومن المرجّح له أن تبقى الأوضاع على حالها إلى حين التوافق على المعادلات الإقليمية المستجدّة في ضوء الاصطفافات الراهنة والمتوقعة. فتركيا مثلاً، رغم حرصها الحالي على التزام موقف متوازن تجاه الصدام غير المباشر بين روسيا والغرب في أوكرانيا، ستضطرّ، عاجلاً أم آجلاً، في في حال تطوّر الأحداث وتفاقم الصراع، إلى تحديد موقفها، خصوصاً أنها عضو مهم في حلف الناتو. كما أن مصالحها الاستراتيجية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، وحتى أوضاعها الداخلية، لن تجعلها متّفقة مع إيران على طول الخط، وربما يمكننا هنا اعتبار توتر العلاقات بين أذربيجان وإيران من جهة، والتقارب التركي الأذربيجاني من جهة أخرى، من المؤشّرات التي تستوقف في هذا المجال.
ما يمكن استنتاجه مما تقدّم أن الاتفاق السعودي الإيراني لن يكون البلسم السحري القادر على معالجة سائر المشكلات في المنطقة، وهي المشكلات التي تسبّب النظام الإيراني الحالي في القسم الأعظم منها، عبر تدخله السافر بكل أشكاله في شؤون الدول والمجتمعات. ونجاح هذا الاتفاق مرتبط بجملة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، منها مدى مصداقية النظام الإيراني، ودرجة استعداده للتخلّي عن مفهوم تصدير الثورة لصالح التوجّه نحو بناء العلاقات المستقرّة بين الدول والكفّ عن التدخل في شؤونها، وكذلك القطع مع نهج تفجير المجتمعات من خلال إثارة النزعات المذهبية.
وفي حال عدم تحقّق هذا التحوّل الجذري في السياسة الإيرانية، فسيكون التفسير الأقرب إلى الواقع لهذا الاتفاق أنه قبولٌ بمخرجات التدخّل الإيراني في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، مقابل هدنة وقتية تكتيكية غير مضمونة العواقب.
عذراً التعليقات مغلقة