* عمر قدور
في تصريحه إلى إعلامه بعد صلاته العيد في داريا، كرر بشار الأسد ثلاث مرات القول إن معارضيه أدواتٌ لقاء حفنة من الدولارات. التصريح لم يستغرق سوى دقائق معدودة، استهله كالمعتاد بتعريف الحرية التي تبدأ، وفق تصوره، بإعادة الأمن والأمان وتستمر بإعادة الإعمار وتنتهي بالقرار الوطني المستقل.
هكذا، لا إشارة إطلاقاً إلى الحريات العامة، بينما، وفق زعمه، حرية المعارضين تبدأ وتنتهي عندهم بحفنة من الدولارات في نهاية كل شهر، أو مع كل موسم إرهابي.
كان موقع «انفيستوبيديا» المختص بشؤون المال نشر، في خريف 2012، تقريراً عن ثروات القادة السياسيين، قدّر فيه ثروة الأسد وعائلته بحوالى 122 بليون دولار. ولمعرفة هول هذا الرقم تكفي الإشارة إلى تدنّي موازنة البلاد في سنوات عدة من عهد أبيه إلى عتبة تتراوح بين 2 و3 بلايين دولار، مع الأخذ في الحسبان تدهور الموازنة في السنوات الخمس الأخيرة من حكم بشار نفسه، واعتماده على الدعم المالي الإيراني لتغطية العجز، وأيضاً شيوع أقاويل عن فساد يتعلق بطريقة صرف الدعم، بصرف النظر عما يشاع عن بيع ممتلكات عامة لقاءه.
يصادف في الوقت ذاته، أن تُستأنف محاكمة عم بشار، رفعت الأسد، أمام القضاء الفرنسي بتهمة الفساد، عندما كان الساعد الأيمن لأخيه حافظ في سورية، ومن ثم التهرُّب الضريبي في فرنسا. الدعوى رفعتها عام 2014 جمعية «شيبرا» التي تدافع عن ضحايا الجرائم الاقتصادية، ووفق التقديرات الأولية لمحققين في الجمارك آنذاك، بلغت ثروة العم العقارية في فرنسا نحو تسعين مليوناً، هذه المرة باليورو لا بالدولار. وما يطعّم القضية بشيء من الطرافة، تصريح نقلته قناة «فرانس 24» عن العم في نيسان (أبريل) 2015، يتنصّل فيه من المسؤولية قائلاً: لا أعرف بواسطة أية أموال تم الشراء (العقارات)، أنا أهتم بالشؤون السياسية حصراً. يجلبون لي الأوراق لأوقعها وأفعل ذلك، فأنا لا أعرف كيف أدفع الأموال، حتى فاتورة المطعم.
ليست المسألة الإتيان بقرائن على الإثراء الفاحش للأسرة الحاكمة ونهب الاقتصاد السوري خلال عقود فحسب. ذلك معروف على وجه العموم. المسألة هي في الحقد الذي يأخذ منحى اقتصادياً، وتجلى خلال عقود من حكم الأسرة بالسعي إلى حرمان السوريين مستلزمات اعتيادية للعيش وجعلها ترفاً. الآلية الاقتصادية هنا عملت، وستبقى، وفق النهج ذاته الذي تعمل به الآلية الأمنية والعسكرية، أي آلية السحق التام. لا مبرر سوى ذلك لجعل السيارة في ما مضى حلماً للسوري، وجعل اقتنائها دلالة على حيازة قدر من السلطة والمال معاً، فهي في أسوأ حالات البلدان الأخرى دلالة على الثراء وحده. وقد يكون مثال السيارة أقرب إلى الفهم من نظيره: الموز، إذ نشأ جيلان من الأطفال يُعد تذوّقه لطفل منهما بمثابة امتياز.
من هذا المنظور يمكن أيضاً فهم «التعفيش»، فسلب ممتلكات أهالي المناطق الثائرة، بعد تدمير البيوت واقتحامها، يقع في صلب حقد النظام الاقتصادي الذي لم يرتوِ خلال عقود. آخر أمثلة «التعفيش» كان في السطو على موجودات بيوت داريا بعد تهجير سكانها، لكن الأمثلة لا تبدأ مع الثورة. ففي المواجهة مع «الإخوان المسلمين» قبلها بثلاثة عقود تم السطو تحديداً على البيوت الجيدة العائدة لكوادر في «الإخوان»، وفي العديد من الحالات أقام فيها ضباط في أجهزة الاستخبارات.
لتحليل مدلول تصريح بشار الأسد (في المستهل)، يلزم ربطه بمجمل السياق، فهو لم يكتفِ بوصف معارضيه بالعملاء والخونة. ذَكَرَ العبارة الأخيرة عرضاً، بينما توقّف عند القبض بالدولار، وهذا التوقُّف لا يبتغي فقط، كما يوحي ظاهره، تنزيل قيمة المعارضين، ووصفهم بالمرتزقة. من عَمل، وعملت أسرته قبله، على مراكمة الثروة وحرمان السوريين أبسط مظاهر العيش يستحق تحليلاً يلاقي ذلك الجشع، تحليلاً أكثر انتباهاً إلى عقدة الدولار إذ تنطق بأفصح لسان. ربما علينا أن نتذكر هنا تصريح المستشار الاقتصادي لبشار خلال ثلاث سنوات، في بدء عهده. حينها، إثر استقالته، قال إنه لا يصغي إلى نصائح مستشاريه، وأنه يتخذ قراراته بانفعال. ثم أضاف: لديه هوس دائم باحتساب ثروته. وضعُ أقوال المستشار السابق في إطارها الزمني يزيد قيمتها، ففي 2005 لم تكن هناك ثورة وسجال يرافقها، ولم يكن هناك أدنى توجه لإسقاط النظام، حتى أن تلك الأقوال لم تلقَ الانتشار كما يحدث عادة لأقوال المستشارين، عندما تفضح أسرار القادة. صحيح أن صورة القاتل تغلّبت على ما عداها، لكن يلزم ألا نستثني الترابط الذي تقيمه السلطة المطلقة إذ ترى نفسها مالكة للأرض ومَن عليها، وترى مَن عليها بمثابة أقنان لا يليق بهم سوى الحد الأدنى من العيش. قبض المعارضين بالدولار، إذا صحَّ وفق هذه الترسيمة، جريمة إضافية لأنها تعلو بهم عن الحد الأدنى المتخيَّل لعيشهم، ولأنهم يتداولون عملة الأقوياء التي لا تليق إلا بصاحب سلطة. أما شيوع هذه التهمة من قبل الممانعين فلعله يكشف العلاقات الداخلية أكثر من أي شيء آخر، ولعله يكشف العلاقات التي يتكفّل بها «المال النظيف الحلال».
عموماً، لا تهذر سلطة المافيا كلما تعلق الأمر بالدولار. من هذه الجهة أيضاً، لا يُعد حديث بشار عن الحرية الحقيقية هذراً، فهو يقول إنها تبدأ بالأمن والأمان، ويقصد طبعاً القضاء على المعارضة. ثم تنتهي الحرية وفْقَه بالقرار الوطني المستقل، وهذا إقرار بعدم امتلاكه الآن، ووعد لمواليه باسترجاعه يوماً، مع الجرعة الفاشية المعتادة التي تبدّي الوطن على المواطن. ما يلفت الانتباه، وهذه ليست زلة لسان، هو المرور بإعادة الإعمار كمرحلة من مراحل الحرية التي يتحدث عنها! وجه الاستغراب سيزول إذا ربطنا الهواجس جيداً. فمع إعادة الإعمار من المنتظر أن تتدفق كتلة ضخمة من الدولارات، وبالطبع لن تجد طريقها إلى المعارضين الذين قُضي عليهم، بل ستجد النظام منتظراً هذه الفرصة «التاريخية». بالتأكيد هي فرصة تاريخية، إذ لم يحدث أن دمّر نظامٌ بلدُه بنفسه على هذا النحو، وانتظر طامعاً في سرقة مخصصات إعماره.
* نقلاً عن: “الحياة”
عذراً التعليقات مغلقة