عندما تُذكر “القبيسيات” الحركة النسوية الدينية، تعود بي الذاكرة إلى المرحلة الابتدائية في مدينة حمص، عندما كانت تدرّسني آنسة ترتدي حجاباً أزرق اللون ذات أسلوب شديد بالتعامل مع الأطفال، فمشاهد معاقبتها لنا جماعياً في الصف الرابع لأتفه الأسباب لا تمحى من مخيلتي، ثم اصطدمت بموقف آخر عندما احتجت معلمة لغة عربية لإعطائي دروساً خصوصية، حيث تفاجأت بالمعلمة الأربعينية التي حجابها لونه كحلي تطلب منّي أن أفعل أموراً دينية، وباتت تخوفني من كوني سأحاسب من الله إن لم أفعلها، فنبذتها بعد درسين، ربّما أرادت سوقي لتلك الجماعة.
ومع انحياز هذه الحركة (كموقف رسمي) لنظام الأسد في مطلع الثورة، انشقّت عنها بعض المنتسبات في ريف دمشق عبر بيان مصوّر (كحال الانشقاقات حينها)، واغتال النظام السبعينية فاطمة الخباز التي تعد الشخصية الثانية بالجماعة، بعد منيرة القبيسي التي بقيت في الظلّ حتى وفاتها دون تصريح معلن بموقفها السياسي، مع غموض حول هذه الشخصية، لكن المهم الموقف المعلن للجماعة التي تقودها، وتعيين النظام سلمى عياش معاوناً لوزير الأوقاف، وخلود السروجي مستشارة إعلامية لوزارة الأوقاف، ومناصب أخرى باتت تتقلدها القبيسيات بإمرة الوزير عبد الستار السيّد.
والملاحظ رغم الموقف المعلن، تقديم العزاء بوفاة منيرة القبيسي، ليس من قبل التابعين للنظام، بل من فئة تابعة للمعارضة والثورة وتتزين بعلمها الأخضر. إذ سارع عدد كبير من المشايخ وعلى رأسهم مفتي ورئيس المجلس الإسلامي السوري، أسامة الرفاعي، ومعاذ الخطيب، وعبد الكريم البكار والقائمة تطول، لإعطاء صفة “المربية الفاضلة” وصفات أخرى تقديسية لهذه المرأة التسعينية تلميذة أحمد كفتارو مفتي حافظ الأسد، ما أدى إلى حرب شعواء لم تكن لتشتعل نيرانها بين السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، لولا التبجح في التعزية بها، ما فتح باباً للجدل.
وتتمحور تبريرات المشايخ حول أنَّها عجوز لا تفقه ما حصل في سوريا من جرائم، كذلك موجودة في دمشق تحت سيطرة النظام، متذرعين بأنَّها مريضة لم تظهر موقفاً علنياً من النظام بل حافظت على عملها الدعوي بعيداً عن السياسية، وهذا تبرير غير منطقي كوننا نحكم على مؤسسة تقودها وليس على شخصيتها، وادعوا بأنَّ فضلها يعود لهداية الفتيات والحفاظ على التزامهن كونها صاحبة المدرسة الدينية الوحيدة للنساء المسموح بها.
تساؤلات عديدة، أولها لماذا كانت دعوتها سرية لسنوات حتى العام 2006 ثمَّ انتقل نشاطهنّ الدعوي من حلقات واجتماعات وحفلات ومجالس ذكر من البيوت سرّاً إلى المساجد علناً وبشكلٍ أوسع تحت إشراف النّظام. ممَّ تخاف منيرة وهي طوع بنان كفتارو، لا بدّ أنّ هذه الحركة هي إشعار المريدات بالخوف المستمر وبأنّهن يجاهدن لطلب العلم المحفوف بالمخاطر المخابراتية، أذكر في العام 2010 كيف طلبت آنسة قبيسية تزور بيت أقاربي وكنت موجودة عندهم بأن نخلع بطارية الهواتف المحمولة كونها حسب قولها تعتبر أجهزة مراقبة من الأمن. يا للهول ما هذا الخوف!.
من أبرز أهداف القبيسيات (وبالطبع عندما نذكر الحركة فمنيرة المسؤولة الأولى عن كل شيء)، تجهيل الفتيات والنساء وتعطيل العقل، وتجسيد قالب العبودية للآنسة وللحاكم، فطاعة الآنسة مقدّمة على طاعة الله أو الأب أو الزوج، لدرجة أنّ الكثيرات عزفنَ عن الزواج كي لا ينشغلن عن الآنسة ومنهنّ من تطلقنَ إن كان الزوج يُعيق ذهابهن للدروس. والتنفيذ الأعمى للأوامر دون نقاش لخدمة الأجندات المخابراتية، (تخالف بذلك معالم الدين الإسلامي الذي يدعو إلى تشغيل العقل والتفكّر) وهذا تؤكده المنشقات عن القبيسيات مطلع الثورة، وهي تعد تياراً مماثلاً لتيار خامنئي في إيران بل ربّما تربطهما صلة وثيقة.
ومن عواقب الحركة النسوية أيضاً، تكريس الجهود على التمييز الطبقي المجتمعي فالحركة تستهدف الطبقة الغنية والمثقفة والأرستقراطية لتعطيها مرتبة أعلى، وتهمل الفقيرات غير المثقفات. رغم أنّ الدعوة لله والدين الإسلامي لا يُفرق بين الغني والفقير (إلا بالتقوى).
عندما نبحث عن الشخصيات الدينية نلاحظ دورهم البارز في تثبيت حكم الأسد وفرض سيطرته على المجتمع عبر تدجينه وإخضاعه، كذلك نرى الصبغة الديكتاتورية في تعامل أرباب المؤسسات الدينية والأساتذة مع طلابهم. ولعلّ أبرز ما فعلته مؤسسات الدين على رأسها كفتارو والبوطي هو ترسيخ صورة نمطية عن المشايخ والعلماء تعطيهم “هالة قداسة” تمنع المسلمين من انتقادهم حتى لو بطرح تساؤلات، وبأنَّهم معصومون عن الخطأ.
عن “القبيسيات” وسياسة التدجين الممنهج
المصدر
الطريق
عذراً التعليقات مغلقة