تثبت دولة قطر من جديد، أنَّ الجغرافيا ليست المعيار للقبول الدولي، وأنَّ ما عجز عنه الكبار يُمكن لدولة صغيرة المساحة تحقيقه، وليس أدلّ على ذلك من تنظيم الدوحة لأكبر حدث كروي في العالم.
أبرزت قطر التي لم يكن يعرفها سوى جيرانها قبل تسعينيات القرن الماضي، الهوية العربية والإسلامية أينما ألقى الناظر عينيه، فبات المستحيل عندما أعلن رئيس الفيفا من مدينة زيوريخ السويسرية عام 2010 اختيارها لاستضافة مونديال 2022 ليس فقط ممكناً بل مبهراً أيضاً.
ولعلّ أبرز ما فعلته الدوحة هو تغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين لدى الغرب الذي يرى فيهم التخلّف عن الحداثة وبأنَّهم “إرهابيون” وتُبّع لغيرهم يستوردون لا يصدرون. وهذا الوتر تعزف عليه وسائل الإعلام الغربية.
ومن أبرزها قناة الـ”BBC” التي أحجمت عن نقل فعاليات الافتتاح. فازدواجية المعايير دفعت رئيس “الفيفا” جياني إنفانتينو للوقوف إلى جانب قطر بالقول: “الانتقادات المتعلقة بكأس العالم تنم عن نفاق، يتعيّن علينا (الأوروبيين) الاعتذار عن ما فعلناه قبل أن نعطي دروساً أخلاقيةً للآخرين”.
من المنطق أن يُظهر البلد المستضيف ثقافته ويحافظ على هويته ويدافع عنها، وهذا ما رأيناه في مونديال جنوب أفريقيا 2010 حيث كانت أول بطولة تقام في القارة الإفريقية، وشهد الافتتاح احتفالات كرنفالية وراقصة على الطراز الإفريقي، لكن لم نشهد الاعتراض على تلك الثقافة، مثلما اعترض البعض على افتتاح مونديال قطر الشرق الأوسطية بتلاوة آية من القرآن الكريم، تدلّ على التآخي بين الشعوب وعدم التمييز بينهم إلا بالتقوى.
وفي المقابل أشاد الكثيرون بهذا الأمر الأول من نوعه في تاريخ المونديال منذ العام 1930، ويؤكد “الفيفا” والكثير من المختصّين بأن تكون هذه النسخة “الأفضل في التاريخ”. فكان المونديال الحلقة الأقوى في رؤية قطر التنموية (2030) الهادفة إلى نهضة شاملة تضعها على خريطة البلدان المؤثرة.
ردود فعل الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” والمشاركين في المونديال كانت معظمها إيجابية، إذ أعرب العديد منهم عن احترامهم لثقافة البلد المضيف، وبرز موضوعا منع تناول الكحول في الملعب وإظهار شعار المثليين، إذ قرَّر (الفيفا)، حظر بيعه للمشجعين في محيط ملاعب كأس العالم.
بدروه أكد قائد منتخب فرنسا لكرة القدم، هوغو لوريس، أنَّه لن يرتدي شارة القيادة (المثليين)، احتراماً للدولة المضيفة، كما استبدل منتخب ألمانيا طيّارته لأنَّها تحمل شعار الشواذ. ويضاف إلى ذلك في إثارة الجدل، استقطاب الدعاة لإعطاء محاضرات دينية خلال كأس العالم.
إجراءات عديدة اتخذتها الدوحة، تحتفي بالموروث الثقافي القطري والعربي والإسلامي، فالأحاديث النبوية والآيات القرآنية زيّنت الشوارع والملاعب الثمانية التي مزجت تصاميمها بين الموروث الشعبي والحداثة، وعبّر العديد من الأجانب عن إعجابهم بصوت الأذان، مع توزيع الكتيّبات بلغات العالم عن تاريخ العرب والمسلمين، فضلاً عن فعاليات الحي الثقافي “كتارا”.
ومن يحضر المونديال سيحمل معه عملة تذكارية (تصدرها الدولة المنظمة للمونديال) خطها السوري عبيدة البنكي، وقدّم الموسيقي السوري- الأمريكي مالك جندلي سيمفونية “وردة الصحراء” كرسالة سلام إلى العالم.
ولأنَّ الكرم من القيم الإنسانية البارزة في تاريخ العرب، ظهرت هذه القيمة عندما تفاجأ المشجعون يوم الافتتاح، بكيس هدايا على كلّ مقعد من مدرجات “استاد البيت” الذي يرمز إلى الخيمة، في بادرة فريدة من نوعها.
ويعدّ اللباس للمشجعين علامة على الانتماء وكثيرون يرتدون قمصان فرقهم أو لاعبيهم المفضّلين، كما لا يمكن تجاهل أثر الفعاليات الرياضية على دور الأزياء الكبرى. وفي قطر يبرز الشماغ الذي وضعه الكثير من المشجعين على رؤوسهم مستخدمين أعلامهم.
فكأس العالم ليس حدثاً عابراً في التاريخ، بل إنَّه حدث يبقى في الذاكرة عقوداً من الزمن، ويعدّ نقطة مهمة يؤرَّخ بها. وهو فرصة مهمة لنقل التراث الشعبي للبلد المضيف، وكلّ ما رأيناه من أعمال في قطر هو محاولة لتجسير الهوة بين الهويات الثقافية والاجتماعية المتنوعة في تجليات عديدة.
وهذا حقّ أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 18 بأنَّ “لكلّ شخص حقّ في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حِدَة”.
العالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية هو أوسع من أن يحصر في قالب قيمي ضيّق، ضمن صورة نمطية قاصرة، ويحسن الاضطلاع برسالة الإسلام ويستطيع أن يتقلّد زعامة العالم الإسلامي ويزاحم أوروبا بعد الاستعداد الكامل، فهو قادر على تحويل العالم من الدمار الشامل إلى السلام العادل.
حريٌّ بتجربة فريدة كهذه في منطقة الشرق الأوسط، أن تتمسّك بعوامل قوّتها واستقلالها، وتؤكد للجميع التمسّك بالهوية العربية الإسلامية التي تواجه تحديَّات جمَّة، منها محاولات قصرها وتضييقها وزيادة الشرخ عبر التعصّب بين أبناء الهوية الواحدة، ولعلّ أخطرها استبدالها مثل النموذج الإيراني بنشر التشيّع بين أبناء السنّة، فالشعوب التي لا تعتز بهويتها مهزومة متردّدة لا يتقبلها الآخر نداً له.
عذراً التعليقات مغلقة