تجعل الحياة في سوريا منكَ محارباً منذ طفولتك الأولى، ونتيجة كثرة المعارك التي تمر بها في حياتك قد تصبح وزيراً أو عالماً أو مفكراً أو سجيناً، أو عاملاً، أو متشدداً أو داعياً لقيم الحرية، أو معتقلاً لا أحد يعرف عنك شيئاً، أو راعياً للغنم.
مهمةُ تلك المعارك الرئيسية أنْ تجعل الطفل الذي بداخلك يغادرك بسرعة، يستعجلونَ بلوغك. كل المقولات والأمثال ونمط الحياة والأقارب يحثونك على أن تغادر هذا العالم لتنتقل إلى عالم البالغين، وحين تستغرق فيه تقول: ليتني بقيت هناك آمناً، حيث كنتُ طفلاً.
لا أحد في سوريا التي كانت يمكنه أن يتنبأ بالمآلات أو العمل الذي ستنتهي إليه، وليس بالضرورة أن تقود المقدمات التي يعدها أهلك بعناية شديدة إلى النهايات هناك، في تأكيد على دور العبثية الشرقية، ويمكن لكل من السوريين أن يذكروا أمثلة على مآلاتهم هم شخصياً، ومآلات متوقعة وغير متوقعة لمن يعرفون، أين أحلامهم وأين أصبحوا منها، ضاعت الدروب منهم أو ضاعوا هم عليها!
إحدى الحروب الكبرى في حياة كل سوري، يرغب في دراسة الجامعة مثلاً، هي الحصول على الشهادة الثانوية، مكثفة في امتحان في أيام قليلة.
كانت الحواجز والحدود مائعة بين التخصصات والفروع المعرفية، لأن المعيار كان الثقافة الموسوعية والجمعية، أي أن يكون لديك أكبر قدر ممكن من المعلومات والأولاد والنقود
تقول صديقة: حين كنت طفلة، ارتبطت الفروع الدراسية الجامعية في مخيلتي الطفولية بصور لم أستطع مغادرتها حتى الآن، وحين ألتقي بخريج/ة فرع ما، تحضر تلك الصور، فإن قلتَ لي: الحقوق ستحضر صورة مجلدات لقوانين مغبرة، لا أحد يستعملها، أو يكترث بها. أما الشريعة فيأتي طيف شخص ميت يركض خلف شخص حي؛ يمشي بشكل عادي، لكن الميت، على الرغم من ركضه، لا يلحق بالحي، ولا يعرف الحيُّ أن الميت يركض خلفه. أما الفلسفة فمكعبات عشوائية تحاول أن تنتظم معاً، وكلما حسبتَ أنها باتت متشكلة في لوحة متناسقة تنهار ثانية. أما خريجو العلوم السياسية فأشخاص خرجوا من معركة خاسرة، لكن لا أحد يصدق أنهم كانوا يشاركون فيها، رغم التعب والإرهاق الواضح على ملابسهم. وعلم الاجتماع مجموعة أشخاص يمشون تحت الطرقات المعبّدة، لكنهم يبقون مرفوعي الأيدي، لكن لا أحد يراهم لأنهم يمشون خلف ركب انتهت مهمته، واللاحقون لا يكترثون بهم. أما دارسو اللغة العربية فأشخاص يرسمون الغرافيتي على بناء قد يتهدم كل لحظة، ينظرون إلى مشهد الحياة القريب منهم، وكأنهم ليسوا منه، هناك بالضبط في مشهد الحياة الذي يمر بجانبهم يكون فرع الإعلام، حيث مجموعة من الشباب والصبايا يضعون الزيت في محرك المطحنة، لكي يكونوا جزءاً من مطحنة الحياة ويومياتها. قلتُ لها: هذه ليست تصوراتك أنتِ هذه تصورات طفلتك يا صديقة، حافظي عليها فلم يعد في الجسد متسع لأطفال جدد.
كانت الحواجز والحدود مائعة بين التخصصات والفروع المعرفية، لأن المعيار كان الثقافة الموسوعية والجمعية، أي أن يكون لديك أكبر قدر ممكن من المعلومات والأولاد والنقود، لاحقاً خفت دور كل من الأولاد والمعلومات، وبقي الدور الرائد للنقود. بعد هجرتي إلى هولندا، قبل عقد من الزمان، وجدت أن دور النقود كذلك يمكن أن يسقط، ليس لأن البشرية باتت تستعمل البطاقات البنكية أو “البيتكوين” وأخواتها، بل هناك ثقافة جديدة اسمها ثقافة الاكتفاء من النقود، حيث هناك شريحة لا تهتم كثيراً بجمع المال إلا بحدود ما تحتاجه، وتخصص بقية وقتها للاستمتاع به.
يقول صديق: استهزأتُ بخيارات هذا النوع من البشر بداية، وعددتهم مخالفين لفطرة البشر، لكن بعد فترة، وجدت أنهم الأقرب إلى نفسي، ومشيت معهم بعد أن عطلتُ فرصة أن أكون مليونيراً بنفسي، وتوقفت عند حدّ يشعرني بالأمان، كان متاحاً لي أن أكون من اللاهثين أبد العمر خلفه، اكتشفت متأخراً جداً أن السر يكمن في الحد، الذي تشعر أنت فيه أنه يكفي لتكون آمناً مادياً، ربما يعود الأمر إلى الشعور أنك في دولة تحملك إن وقعتَ، أو التقدم بالعمر؟ لا أحد يعرف ما هي حدود إشباع الرغبات، السلطة هل من حدود لها، يقال: إن السعداء في الحياة هم الذين يضعون حدوداً ويتصالحون مع ما تتيحه ظروفهم، أما التعساء فهم الراكضون، الذين يركضون من قمة إلى قمة.
قلتُ لصديقي: كل ما في الأمر أنكَ أعطيتَ طفلك المساحة التي يستحقها يوم غابت عنكَ ضغوطات المجتمع، لا تعده إلى القفص.
يتحدث المعالجون النفسيون في إطار علم نفس الحروب عن ظاهرة تصيب القادمين من مناطقها اسمها “الشعور باللاجدوى”، بعد أن تهدم الحروب كل ما بناه أولئك الأشخاص في حياتهم. لا يتوقف الشعور هاهنا على الجانب المادي، بل هدم السيرة الذاتية، ولأن هذا الجانب يكشف أنهم شاركوا بعملية تهديم نفسي فإنهم يهربون من مناقشته، لعدم معرفتهم كمية الفقد الذي سيعيشه كل منهم.
ثمة مؤشرات على أن الطفل لم يغادرك، وإنْ غادركَ فاستعده قبل أن يفوت الأوان، فإنْ رأيتَ أمك ولم تركض نحوها. تتملكك رغبة بأن تجلس في حضنها، فاعلم أن الطفل قد غادرك، ابحث عنه وأعده.
وإنْ لم تطرب للحظة مديح لعملك أو إشادة بك ويرفرف قلبك ولا تخفي ابتسامتك يكون عليك السلام فإن طفلك قد دفنته تحت سبع طبقات، أزل تلك الصخور عنه واستعده.
حرك كتفيْك إنْ سمعت موسيقا تحبها، ارقص ولا تنظر إلى الآخرين، ليست الصرامة والجدية أحسن صفات البشر دائماً، ليس من الضروري أن يكون عملك دائماً كاملاً، لا بد أن يشاغب طفلك يميناً أو يساراً ولا تخش لومة زميل أو مدير، قل له: أنا لم أقم بذلك إنه طفلي، وإن لم يصدقك فأعطه رقم هاتفي سأكون شاهدك.
حين تستيقظ صباحاً، وتفتح الشباك وترى الحياة قد بدأت، راقبها قليلاً وافرح بها كأنك تراها أول مرة، اندهش واستغرب، واضحك، اضحك كأنك تشاهد مسرحية “العيال كبرت” أول مرة اضحك حتى توقظ أطفالك من النوم.
ابكِ إنْ رفضتَ حين تقدمتَ لعمل، أو لم تحصل على الأجر الذي تتمناه، أو خاب رجاؤك بمن أحببتَ، أو غدر بكَ من شاركتَ، ابكِ حتى يسمع نحيبك أشخاص سيقولون عنك: طاقته على التحمل قليلة، وقدرته على مواجهة الصدمات محدودة! ابك كما كان يبكي طفلك حين يخاف، أو تجرح يده أو لا يتحقق مراده.
لا تُمِتْ نفسك باكراً، لا بدّ من شقاوة هنا، أو شقاوة هناك، لا عليك باللوم، المهم ألا تؤذي شقاواتك الآخرين، أو أن تجرحهم، هناك فضاءات شاسعة لطفلك كي يسبح دون احتكاكات صعبة.
إن وجدتَ أن لديك رغبة بدراسة فرع دراسي كنت ترغب أن تدرسه فلا تتردد ولا تلتفت إلى مواليدك في جواز السفر، أو تحسب الواجبات والخسارات، وإن كنت ممن يحب عالم التصوف فسافر إلى “قونية” واحضر جلسات الدراويش السنوية.
لا شيء يحتاجه السوريون اليوم مثل حاجتهم إلى أطفالهم، لا سبيل إلى مقاومة ما تعرضوا له، إلا باستعادة ذلك الطفل، الذي سيمنحهم قدرة عالية على البدء من جديد
إياكَ أن تدفن طفلك، جديرةٌ به الحياة، وجديرةٌ بك، تعينان بعضكما على مواجهتها. فالشخص البالغ الذي تحاول أن تكون، لا يستطيع مواجهة دهاليز الحياة؛ دون الطفل الذي يعيش في ظله أنت، أنظر إليه في المرآة كل يوم وقل له: لا تسافر كي لا تغدو حارات العمر وأزقته موحشة من بعدك يا طفلي، يا شريك شقاواتي وأحلامي.
لا شيء يحتاجه السوريون اليوم مثل حاجتهم إلى أطفالهم، لا سبيل إلى مقاومة ما تعرضوا له، إلا باستعادة ذلك الطفل، الذي سيمنحهم قدرة عالية على البدء من جديد، بعد الذي تهدم وتكسر. لذلك فإن أبرز ملمح للعقد الاجتماعي المأمول فيما بينهم هو أن يساعدوا بعضهم البعض على استعادة ذلك الطفل المفقود، الذي ضاع حتى حسب كثيرون أنه لن يعود ثانية، وحين يعود سيعود معه الأمل ببداية جديدة متوثبة، قد تتعثر لكنها المهم أن تنهض، لا لشيء بل كي لا نفقد ذلك الطفل البعيد بداخلنا.
إنْ ذهبتَ إلى حديقة لتلعِّب طفلك، فلا تنس أن تلعب معه، فالطفل الذي في داخلك يحب أن يتمرجح ويطير عالياً.
الأنثى التي تمرجح طفلها على يمينك، هل تتذكرها؟ هي ذاتها التي كنتَ تلعب معها ذات يوم، رأيتما الأبوين فجأة، فاختبأتما خلف شجرة. هي ذاتها لا أحد يهزُّ مرجوحتها، فحبيبها فُقِدَ في الحرب، لا تتردَّدْ أن تهز لها مرجوحتها، فالطفلة داخلها تخجل أن تقول لك: مَرْجحني أيُّها الطفل الكبير!
عذراً التعليقات مغلقة