قبل أكثر من عامين قصد شخصٌ يدعى “راكان الشمري” (أبو حائل) قرية ملوك سراي الواقعة إلى الجنوب من مدينة القامشلي ريف محافظة الحسكة السورية. “أتى مع أغنامه” وانخرط بين الناس هناك شيئا فشيئا، من باب أنه “غنّام” (كما يطلق محليا)، ويسعى للنزول في إحدى المراعي، التي تتميز بها المنطقة ذات الأراضي الخصبة.
لم يكن “الشمري” معروفا لدى الكثيرين في القرية المذكورة الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، لكن من خلال طريقة تعاطيه مع المجتمع المحلي فيها تمكّن من إثبات حضوره، وكأنه أحد سكانها الأصليين.
في البداية ولمدة عام ونصف سكن في مزرعة بالقرب من “ملوك سراي”، لكن ومنذ ثلاثة أشهر انتقل للعيش في منزل داخلها. وهو الذي قتل فيه، ليلة الخميس، بعد عملية إنزال جوي نفذتها قوات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
لم تكن هذه العملية اعتيادية كما سابقاتها، بل كانت الأولى من نوعها في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد في سوريا من جهة، وأسفرت عن مقتل “أبو حائل” من جهة أخرى، الذي اتضح أنه قيادي في تنظيم “داعش”، حسب بيان القيادة المركزية الأميركية.
وبينما قال مسؤول في القيادة المركزية للحرة، إن “الشمري” كان مسؤولا عن تسهيل عمليات تهريب الأسلحة، وأن العملية التي استهدفته “دقيقة واستخدمت فيها مروحيات” لم تنشر أي تفاصيل أخرى بشأنه، فيما توصل موقع “الحرة” لمعلومات عنه بالحديث مع ثلاثة صحفيين، من أبناء المنطقة الشرقية في سوريا.
وحسب ما قال مسؤول دفاعي آخر لـ”الحرة” فإن العملية أسفرت أيضا عن جرح شخص آخر يعتقد أنه مساعد لـ”الشمري”، كما تم اعتقال شخصين من داعش، مضيفا أن “القوات الأميركية نفذت العملية منفردة دون مساعدة من أي شركاء أو حلفاء”.
ولم يمض يوم كامل على هذه الحادثة لتعلن القيادة المركزية ببيان ليلة الجمعة، مقتل قياديين آخرين في تنظيم “داعش”، بضربة نفذتها في شمال سوريا، وأسفرت عن مقتل قتل كل من “أبو هشام الأموي”، نائب والي سوريا، ومسؤول كبير آخر في التنظيم مرتبط به.
من هو “أبو حائل”؟
ينحدر الشمري من قرية التويمين الواقعة على الحدود السورية-العراقية جنوب منطقة تل حميس، والتي تبعد عن القامشلي مسافة 60 كيلومتراً باتجاه الحدود العراقية، وهي المنطقة التي تقيم فيها قبيلة شمر، حسب ما يقول الصحفي السوري، سامر الأحمد.
ويضيف الأحمد لموقع “الحرة”: “يبدو أن الشمري ولقبه أبو حائل كان قياديا في داعش ووصل إلى المنطقة الواقعة في جنوب القامشلي ومطارها، بمسافة 15 إلى 20 كيلومترا، وهي الخاصعة لسيطرة الدفاع الوطني وميليشيات أخرى تابعة للنظام السوري”.
ويسكن في المنطقة التي جرت فيها عملية الإنزال الجوي أبناء قبيلة طي بكافة فروعها، وبما أن أرضها خصبة ويمر منها نهر جغجغ أحد روافد الخابور يقصدها بين العام والآخر أناسٌ من دير الزور والسخنة والرقة قاصدين المراعي، وإطعام الأغنام.
ومن هذه الزاوية أتى “أبو حائل” مع أغنامه إلى القرية التي تتبع لبلدية تل عودة جنوب القامشلي، منذ أكثر من عامين. “جاء على أنه غنّام ويبحث عن مرعى. جلس بالقرب من القرية، ومن ثم أخذ مزرعة لأحد الأهالي فيها وبقي لعام ونصف”.
وحسب الأحمد الذي ينحدر من “تل عودة” القريبة لملوك سراي: “يقال إن الشمري ربما كان متورطا بتجارة أسلحة وآثار. لا يوجد شيء مثبت، لكنه كان يقول للأهالي هناك بأنه مربي أغنام”.
“من 3 أشهر انتقل إلى قرية ملوك سراي وأخذ منزل وسكن فيه. كانت علاقته جيدة مع أهالي القرية، ومؤخرا أصبح يساعد الأيتام والفقراء من أموال وغيرها. ظهر على أنه شخص غني، وبات يحسن علاقاته مع المدنيين”.
ويتابع الصحفي السوري بعد تواصله مع أشخاص مطلعين على حياة “أبو حائل” وتحركاته في جنوب القامشلي: “منذ فترة قيل إن التحالف اعتقل أناس في مخيم الهول، بينهم أقربائه، وأطلع على محادثات مشتركة خاصة بهم مع أبو حائل”، لتكون هذه الحادثة بداية الخيط الذي أوصل القوات الأميركية له.
ونفذت عملية الإنزال التي أسفرت عن مقتله 7 طائرات أميركية، وبعدما هبط قسم منها حاصرت القوات الأميركية المنزل الذي يعيش فيه “الشمري”، فيما أسفرت مقاومته في اللحظات الأولى عن مقتله على الفور.
ويخضع مسرح العملية لسيطرة قوات نظام الأسد والميليشيات المرتبطة به، والتي دخلت على خط عملية الإنزال بصورة غير مباشرة، إذ يشير الأحمد إلى أن “نقطة عسكرية لميليشيا النظام أطلقت عيارات نارية على الطائرات الأميركية، ما دفع التحالف لتوجيه إنذار استسلام لكل من يتمركز فيها”.
وكان في هذه النقطة العسكرية ضابط برتبة “ملازم”، وعناصر آخرين، أصيب منهم اثنان في أثناء عملية الرد على الإنزال.
من جهته يوضح أحمد يساوي وهو عضو في شبكة “صدى الشرقية” الإخبارية المحلية أن “الشمري كان له علاقات مع ضباط الأمن السوري والميليشيات المنتشرة في المنطقة جنوب القامشلي”.
ويقول لموقع “الحرة”: “إن سيارتين من نوع بيك آب نقلت جثته بعد مقتله يوم الخميس إلى جهة غير معلومة”، وأنه “قتل في مكان ودفن في مكان آخر”.
علاوة على ذلك، يشير الصحفي السوري، زين العابدين إلى أنه وخلال عملية الإنزال اعتقلت قوات التحالف قياديا بميليشيا “أنصار الأمن العسكري” يدعى “علي الحنوش”، وعنصرين آخرين من “الدفاع الوطني”.
ويقول لموقع “الحرة”: “أبو حائل منتسب منذ عامين لميليشيا الأنصار الرديفة للأمن التابع للنظام السوري، وكان يؤويه علي الحنوش. عملية الإنزال حصلت في منزلين في قرية ملوك سراي، قرب مقرين للأمن والدفاع الوطني”.
وتحمل هذه العملية رقم “13” للتحالف الدولي ضد “داعش” في شمال وشرق سوريا، وذلك منذ منتصف شهر أغسطس الماضي.
وجاءت “كنتيجة لعملية مخيم الهول الضخمة، والتي أسفرت عن سيل معلومات كبير تم استخلاصها من المعتقلين الذين تم أعتقالهم هناك. بعد ذلك اعتقل العشرات من خلايا وممولي التنظيم في الحسكة، والرقة، ودير الزور”، وفق الصحفي زين العابدين.
“نقطة ارتباط”
ومنذ تاريخ مقتل عبد الله قرداش “أبو إبراهيم القرشي”، في فبراير 2022، بدا لافتا تصاعد عمليات التحالف الدولي، والتي باتت تستهدف بشكل أساسي شخصيات من “الصف الأول والصف الثاني” من قادة “داعش”.
وكان أبرز وآخر هذه العمليات تلك التي حصلت، في شهر يوليو الماضي بريف حلب الشمالي، وأسفرت عن زعيم التنظيم في سوريا، ماهر العقال.
من جانب آخر، كانت السلطات التركية قد أعلنت في سبتمبر الماضي، عن اعتقال القيادي البارز في “داعش”، “بشار خطاب غزال الصميدعي”، والذي يلقب بـ”حجي زيد”، وكان من بين الشخصيات “الأكثر احتمالا” لتولي هذا المنصب، خلفا لـ”أبو إبراهيم القرشي”، بعد مقتله في إدلب، بعملية أميركية.
وحسب “معلومة خاصة” حصل عليها الصحفي السوري، سامر الأحمد، حسب تعبيره فإن “راكان الشمري كان بمثابة منسق ونقطة ارتباط بين خلايا داعش في مخيم الهول ومنطقة جنوب الحسكة ودير الزور. مثّل نقطة ارتكاز قوية لداعش، وخاصة من خلال التحويلات المالية”.
ويضيف الأحمد: “وصلتني معلومة أخرى أن الشمري تحدث لأناس خلال وجوده في قرية ملوك سراي أنه قتل جندي أميركي، في أثناء محاولة تفتيش منزله. وبعد هذه الحادثة هرب وجاء إلى الرعي في ملوك سراي”.
ولطبيعة المنطقة الواقعة في ريف القامشلي دورا كبيرا في نشاط “أبو حائل”، كونها بعيدة عن أجواء الصراع “والعين ليست عليها”، حسب الصحفي.
ويوضح: “الناس فيها فقراء ويعملون في الأراضي الزراعية وببعض المدارس. من المحتمل أن يتغلغل بعض قادة وعناصر داعش فيها، خاصة أنها بعيدة عن الأحداث التي حصلت خلال السنوات الماضية”.
ويؤكد الأحمد أن عملية مقتل “الشمري” هي الأولى من نوعها في مناطق سيطرة نظام الأسد، وأنه “من الطبيعي أن يكون فيها قادة من داعش، لأنهم قادرون على التخفي في معظم مناطق البلاد. بين الفترة والأخرى نسمع عن عمليات إنزال هنا وهناك”.
لماذا يتساقط قادة “داعش”؟
وحتى الآن لا يعرف الاسم الفعلي لزعيم تنظيم “داعش”، لكن تقديرات الأمم المتحدة التي نشرت في أغسطس الماضي تشير إلى أن عدد مقاتلي “داعش” بين سوريا والعراق يصل إلى 10 آلاف، وأن هذا التنظيم الإرهابي لا يزال “يهدد السلم والأمن الدوليين، رغم هزيمته الإقليمية، والخسائر التي منيت بها قيادته”.
ورغم خسارة “داعش” للأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا مؤخرا وقبل ذلك في العراق، إلا أن عملياته الأمنية وهجماته لم تتوقف، حيث أنه يتبنى بين الفترة والأخرى استهدافات ضد قوى عسكرية مختلفة، ومتوزعة في مناطق نفوذ متفرقة، الأمر الذي دفع إلى إصدار تحذيرات سابقة من أن “النشاط” لا يزال قائما، وربما سيتوسع إلى مرحلة جديدة.
ويعتبر عام 2019 نقطة فارقة في مسار تنظيم داعش في سوريا والعراق، ويرتبط ذلك بأن الظروف التي تبعت هذا التوقيت شهدت سلسلة من التطورات الجذرية، بدءا من مقتل “البغدادي” على يد القوات الأميركية، ووصولا إلى تحوّل النشاط إلى القتال ضمن ما يصفها الخبراء بـ”استراتيجية الذئاب المنفردة”.
وهذه الاستراتيجية كانت قد اتبعت خلال الفترة التي تعاقب فيها على زعامة داعش “عبد الله قرداش” (أبو إبراهيم الهاشمي القرشي)، الذي قتل أيضا على يد القوات الأميركية في فبراير 2022، ليحل مكانه “خليفة ثالث” يدعى “أبو الحسن الهاشمي القرشي”. وهذا لم تعرف هويته حتى الآن.
ولم يعد التنظيم قادرا على إيجاد ملاذات آمنة لقياداته التي باتت تتساقط واحدا تلو الآخر، وفق رائد الحامد رئيس قسم الدراسات الأمنية في مركز العراق للدراسات الاستشرافية.
ويرتبط ذلك بأسباب منها “رفض المجتمعات المحلية لهذا التنظيم وتعاونها مع الجهات المناهضة له”.
ويقول الحامد لموقع “الحرة”: “لم يكن أحدا يتوقع أن يختبئ قيادي من قياديي التنظيم في قرية تخضع لسيطرة قوات النظام، مثل ملوك سراي بريف مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة”.
وتثير الأسماء التي أعلنت عنها القيادة الوسطى الأمريكية الكثير من التساؤلات، حسب تعبير الباحث، وذلك عن أن داعش “بات يجدد قياداته الفاعلة في الصفوف المتقدمة بالزج بقيادات غير معروفة سابقا”.
ويأتي هذا الأمر “في محاولة من التنظيم، لتجنب الملاحقات الأمنية، التي غالبا ما تعتمد على قاعدة بيانات حصلت عليها الولايات المتحدة أو التحالف الدولي، سواء بالإنزالات الجوية واعتقال قيادات ومصادرة ما يمتلكون من هواتف وحواسيب، أو من خلال متعاونين من الفصائل السورية أو الأجهزة الأمنية والمخابراتية للدول مثل العراق أو غيره”.
وفيما يتعلق بالضربة الثانية التي تبعت مقتل “الشمري”، يرى الحامد أنه “لا توجد تأكيدات على ما قالت القيادة الأمريكية الوسطى إنها قتلت نائب قائد تنظيم الدولة في سوريا”.
ومع ذلك فإنها “وبالتأكيد قتلت أعضاء مهمين في التنظيم، منهم راكان وحيد الشمري أو أبو حائل، الذي كان يسهل تهريب الأسلحة والمقاتلين. هو منصب عادي لكنه مهم لديمومة عمل التنظيم”.
ولا يستبعد الباحث العراقي وهو خبير في شؤون الجماعات المتشددة أن تكون نشاطات “الشمري” عبر حدود سوريا مع العراق، التي لا تتجاوز 70 كيلومترا عن القرية التي قتل فيها.
“حالة إرباك”
وقد وضع تساقط قيادات التنظيم من الصفوف الأولى والثانية داعش “في حالة إرباك” جعلته يحجم عن الاعتراف باعتقال أميره “بشار خطاب غزال الصميدعي” المعروف باسم “حجي زيد”، أو الإعلان عن خليفة جديد.
ويتوقع الباحث الحامد أن “التنظيم سيتجه لإدارة ولاياته إدارة لا مركزية يصبح فيها دور خليفة التنظيم أو أميره اعتباريا لا قيمة تنظيمية له”، ومن المحتمل أيضا أن “تتحول ولاية الشام إلى الولاية المركزية للتنظيم، أي أنها تمثل مركز قيادة التنظيم، وهي من تقود فروع التنظيم الأخرى”.
وتحدث عن ثلاثة قادة فقط ظلوا على رأس هرم “داعش”، هم “حجي تيسير”، “حجي غانم”، “حجي عبد اللطيف”.
والأول كان مسؤولا ماليا وعضو لجنة مفوضة أو نائب رئيس اللجنة المفوضة، والثاني “حجي غانم” شرعي، وعبد اللطيف هو “رجل كبير في السن يقال إنه تجاوز السبعين عاما”.
عذراً التعليقات مغلقة