في سياق حديثه عن إنثروبولوجيا المجتمعات المسلمة، لاحظ أرنست غلنر، أنه مع تشكّل الدولة القومية في العالم الإسلامي، كان الإسلام الطرقي يعلن عن تراجعه وهزيمته لصالح الإسلام السلفي/الإصلاحي، أو الإسلام العقلاني، كما يحلو للبعض قوله. وفي سياق تفسيره لهذا التحول، وجد غلنر أنّ مجال الدولة القومية لم يعد يتيح للصوفيين أداء وظائفهم الاجتماعية، وبالأخص على صعيد التوسط في النزاعات والأسواق، وهي وظائف ستتراجع مع قدوم موظفي مؤسسات الدولة.
أثبتت هذه الرؤية لاحقا عدم دقتها في تفاصيل عديدة. فعلى صعيد دمشق، سيلاحظ باحثون إنثروبولوجيون أنّ الطرق الصوفية في دمشق لم تتراجع، بالعكس نرى أنّ دورها الاجتماعي قد تصاعد مع الستينيات، سواء على مستوى الحياة الاجتماعية، أو الدينية، وحتى على مستوى الخدمات التي بقيت تقدّمها هذه الجماعات حتى يومنا هذا. ويكمن الإشكال في أنّ هذا التفسير، غلنر لن يقف عند هذا الحد، وإنما سنرى أنّ صورة العقلانية هذه ستطبع سلوك وقيم أهالي هذه المدن، فهم وفق هذه الصورة ليسوا سوى أصحاب محال ودكاكين. وهذا ما نراه مثلا في سردية اليسار السوري المقبل من الأرياف حول مدينة دمشق، فوفقا لسردياتهم فإنّ أهالي هذه المدينة ليسوا رواد مشاريع فكرية أو اهتمامات ثقافية، بل هم أصحاب مصالح وتجارة، ومحافظين تقليديين، لا يرون في الدين سوى طريق لتبرير مصالحهم. وهذا ما يلمّح إليه بالمناسبة سامي زبيدة في كتابه حول الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي، إذ يرى أنّ الفقه في الإسلام لم يتطور سوى في المدينة، جراء مطالب السوق ومعاملاته، ولذلك نرى أنّ مدينة دمشق وفقا للتفسير الجديد هي مدينة عقلانية، تسودها علاقات المصلحة وقيم السوق، وأهلها أصحاب أخلاق بروتستانتية (في إشارة لتساهلهم في قضايا الدين لصالح التجارة) ولذلك لم تتمكن (وفق سردية بعض المثقفين) من إنجاب مثقفين كبار. مع أنّ الباحث في تاريخ الأفكار في سوريا، سيلاحظ أنه خلافا لذلك، كانت دمشق في العقود الأخيرة شاهدة على بروز عدد من المثقفين المهمين، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، نجاة قصاب حسن وفواز حداد. وبالتالي فإنّ المدينة، وخلافا للصورة والسردية الدرامية عنها، كان أهلها أيضا مشغولين بعيد الخمسينيات بسؤال الثقافة والهوية والأفكار.
الجنون مدخلا آخر لدمشق
لكن رغم هذه الصورة الأخرى لدمشق، بوصف أهلها مشغولين بالأفكار والقيم وليس التجارة حسب، فإننا ربما لا نعثر على قراءة لهذا الجانب، وبالأخص في العقود الأخيرة. وإنما ستبقى صورة الأسواق وقيمه هي الطاغية أثناء تخيل صورتها. وربما سننتظر لسنوات طويلة، ليأتي لاحقا أحد مثقفي/حكواتي المدينة، ويعيد الاعتبار من جديد لمدينة بوصفها مدينة اللاعقلانية، خلافا للمدينة العقلانية التي حاولت الدولة القومية وبعض المثقفين رسمها عنها. هذا الحكواتي (والحكواتي هو مثقف مدن القرن التاسع عشر) هو الروائي السوري الراحل خيري الذهبي، إذ سيعمل قبل وفاته على عدد من المشاريع التي سترسم صورة عن دمشق بوصفها مدينة الجنون واللاعقلانية (الخيال الإيجابي). وهي مدينة لا يمكن اكتشاف مفاتيحها من خلال عدسات ماركس وماكس فيبر، بل تتطلب معرفة وأدوات أخرى قادرة على قراءة ليالي ألف ليلة وليلة الشامية، وعالمها المخفي والعجيب.
وسنعثر على هذا الطرح في أعماله الأخيرة (الجنرال والمكتبة السرية، رواية/ مذكرات الجنة المفقودة، التدرب على الرعب/الطبعة الثانية). إذ سيلاحظ القارئ في هذه الأعمال، أنّ شخصية المجنون وقصص العفاريت، ستحضر في أكثر من فصل، وبالأخص العملين الأولين. ففي روايته الجنرال والمكتبة السرية، يظهر الجنون تارة مرتبطا بالزواج، وتارة أخرى يتوزّع المجانين هنا وهناك في بيادر الرواية. وحتى عندما تختفي، تظهر عوالم الجنون واللاعقلانية من خلال سرداب المكتبة الذي سيقوده إلى «غرفة تحوي طاولة كبيرة، وقد أحيطت بالكراسي مملوكية الطراز، وعلى هذه الكراسي كانت هناك هياكل عظمية تضع العمائم والخوذات، وتتكئ جميعها بأكواعها على الطاولة». وفي هذا المشهد الذي يبدو غريبا وعجيبا أمام هياكل المماليك (أبطال الصوفية في دمشق) سيكتشف بطل الرواية (ابن الشيخ) أنه آخر اليازجيين الحافظين لقصص وأسرار المدينة؛ «أنا ابن الشيخ محيي الدين اليازجي». ولعلها إشارة إلى محيي الدين بن عربي، العالم الصوفي الذي دفن على أحد سفوح جبل قاسيون في دمشق، ليبقى دليلا على أنّ للمدينة تراثا فكريا وثقافيا عميقين.
سيتعمّق هذا الحضور للجنون (أو العالم اللاعقلاني في قصصه) أكثر مع عمله الآخر «الجنة المفقودة» الذي صدر تحت صنف رواية، وإن كان يحلو لنا القول إنها أقرب للسيرة الذاتية التي تتناول ذكرياته عن أحياء دمشق وقصص أهلها وحكاياتهم منذ الخمسينيات، وفي كل الأحوال، سيحدّثنا في هذا النص عن ولع الدمشقيين في الاستماع للقصص مثل، قصة سليمان والنملة، وعن عالم السيارين (الرحلات إلى بساتينها). وهي رحلات ربما تمثّل امتدادا لتقليد قديم عرفته المدينة وعبّرت عنه سيارين الشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي وتلامذته في القرن الثامن عشر. وهي سيارين لم تكن تقتصر على بضع ساعات، بل عدة أيام، يقومون خلالها بالتنسّك، بينما يعمل مريدو النابلسي من التجار على زيارته مصطحبين أكياسا من القهوة، لتعينهم على السهر والتعبد. وربما بقي هذا التقليد سائدا، مع تغيّر شكله وأهدافه في يوميات النصف الثاني من القرن العشرين، التي عاشها الذهبي. مع ذلك ظلت بعض جذور هذا التقليد ماثلة من خلال عبارة دارجة «السير هو للروحنة».
نحن أمام حكاية من حكايا ألف ليلة وليلة. لكن اللافت أنّ الحديث عن عالم الجنيات، لا نسمعه هذه المرة من روائي قادم من الريف أو المدن السورية الصغيرة، الذين عادة ما تفاخر أولادها بإرث جداتهم حول قصص العفاريت (السعلوات) وإنما نرى أنّ الذهبي ابن دمشق (العقلانية) عارفا بها. وقد يقول قائل إنها من صنع خياله الأدبي، لكن، حتى لو كان ذلك، فإنّ الخيال لا يمكن أن يتفتّق من العدم، بل لا بد من صور وحكايا أولية تسمح له بالولادة.
كما يظهر عالم الجنون واللاعقلاني وقصصه لدى الذهبي في مكان آخر، عندما يروي لنا قصص الدمشقيين عن العفاريت في الخمسينيات والستينيات. فدمشق، ورغم أفكار العروبة واليسار المقبلة لاقتلاع البدع والأساطير، نراها هنا ما تزال تقاوم ومحتفظة بهذه الأساطير. وهذا ما نراه في قصة العجان أبو الخير، العامل في أحد أفران حي القنوات (أحد الأحياء القديمة في دمشق) إذ تقول إحدى القصص إنّه في أحد الأيام مضى إلى الدرويشية (مسجد وزاوية صوفية) ومنها انحرف إلى حارة أخرى، وسأترك القارئ هنا أمام الحكاية كما يرويها الذهبي «وهناكم شاهد قردا أسود صغيرا، أعجب به فحمله على رقبته، لكن القرد حاول التملص ونزل إلى الأرض.. نزل ليكلم أبا الخير، قال القرد لأبي الخير يطلب التحرير: اطلب وتمن؟ فقال أبو الخير: أريد ما يريحني من عمل الفرن، فقال القرد: لك ما تريد، وأعطاه كيسا كبيرا مملوءا بالذهب، ولما حاول القرد المضي، طمع أبو الخير وأمسكه، فتحول القرد إلى تيس صغير، فتكلم التيس قائلا: أنا الجنية الجميلة، إن أطلقتني فسأكون لك، فرح أبو الخير وحمل التيس.. ومضى إلى البيت مع كيس ذهبه، وحينما استيقظ في اليوم التالي، فتح الكيس فهربت منه الجنية، ليكتشف أنّ الكيس مملوء بقشر البصل أصفر اللون، ففقد عقله، ويقول أهل الخير في الحي: إنّ الجنية تلبّسته، وهي لا تزال تعيش معه، في بيته في آخر «زقاق مطرح ما ضيع القرد ابنه».
الجنون والمدن
وكما هو واضح، نحن أمام حكاية من حكايا ألف ليلة وليلة. لكن اللافت أنّ الحديث عن عالم الجنيات، لا نسمعه هذه المرة من روائي قادم من الريف أو المدن السورية الصغيرة، الذين عادة ما تفاخر أولادها بإرث جداتهم حول قصص العفاريت (السعلوات) وإنما نرى أنّ الذهبي ابن دمشق (العقلانية) عارفا بها. وقد يقول قائل إنها من صنع خياله الأدبي، لكن، حتى لو كان ذلك، فإنّ الخيال لا يمكن أن يتفتّق من العدم، بل لا بد من صور وحكايا أولية تسمح له بالولادة. ولعل هذه الصور الأولية في حالة الذهبي، هي عبارة عن عشرات القصص التي سمعها في طفولته وشبابه، وهي قصص تكشف أنّ خلف أسواق دمشق ومعاملاتها العقلانية اليومية، كان تختفي آلاف الحكايا عن العفاريت والعشاق والمتصوفة الذين يحمون أهل المدينة. لكن يبقى هنا سؤال وهو لماذا يقرّر الذهبي اللجوء إلى عالم الجنون واللاعقلاني للحديث عن مدينته؟
تلاحظ الأستاذة وين جين أويان في كتابها «سياسة الحنين واتجاهاته في الرواية العربية» أنّ موضوع الجنون كان حاضرا في الرواية العربية، خاصة أنه يخبرنا عن الخبرات المعيشة التي مرت بها الأمة ـ الدولة، فالجنون في رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ يمثّل دور الثورة ضد القوانين المرعية. وبما أنّ العقلاء يدون مترديين أمام الظواهر الثقافية والاجتماعية، يمكن للمجنون إشهار أسلوبه في رؤية الأشياء. ولعل هذه الملاحظة تنطبق قليلا على نوايا الذهبي في روايته ـ المكتبة السرية، فالحفيد لا يرى من حلّ في مواجهة الجنرال الذي يرغب بتدمير مكتب أجداده (تراث المدينة) سوى بالاستعانة بكرامات جده الصوفي (المجنون المقدس/أو المفكر اللاعقلاني وفق التعبيرات الحداثية) من أجل حمايته والدفاع عن المدينة. مع ذلك نعتقد أنّ مشروع الذهبي في إيقاظ مجانين المدينة وعفاريتها وحكاياها العجيبة لا يرتبط فقط بالحرب في سوريا، بل يأتي في سياق مشروع أوسع يتعلق بصورة دمشق وأهلها ومستقبلها أيضا، فقصة العجان مع الجنية لا تحتوي على حمولة ثورية، بل على عبرة اجتماعية وأخلاقية.
يبدو أن الذهبي كان يطمح من خلال إحياء هذه القصص وروايتها إلى خلق صورة أخرى عن المدينة وأهلها، أو ربما لإحياء خيال الدمشقيين. فهم، وكما تقول بعض الروايات، وافقوا بعد الثمانينيات على عهدة مع النظام السياسي تضمن لهم النشاط الاقتصادي والديني النائم/البعيد عن السياسة. وهذا ما انعكس على حياتهم وسلوكياتهم لعقود طويلة، قبل أن تأتي أحداث 2011، لتكشف عن جيل آخر من الدمشقيين يطالبون بالتغيير من الجامع الأموي، إلا أن الواقع سيجبرهم على التراجع والعودة للقواعد التقليدية، وهذا أمر مبرر ومفهوم. وهنا يظهر مشروع الذهبي في استعادة حكايا المدينة اللاعقلانية مشروعا بديلا، فقصص المجانين والعفاريت والمتصوفة هي نصوص رمزية مفتوحة دون منازع، وهي القادرة على توريط القارئ وأهل المدينة مرة تلو الأخرى على التخيل، ودونها يعني الموت الرمزي للدمشقيين (أداء دور التاجر فقط على مسرح الحياة اليومية/واستعير هنا مفهوم المسرح من أرفنغ غوفمان).
ولعل ما يدعم هذا الاستنتاج حول إحياء الجنون والتراثي في مشروع الذهبي، ما يذكره في إحدى مقالاته المنشورة عن إدوارد خراط. إذ يؤكد أنّ الأخير أسّس لفتح جديد في الرواية، من خلال نسف البناء الميكانيكي للرواية التي بناها كتّاب سوفييت، عندما حولوا العالم إلى قطبين مستغِل ومستغَل، أو (عقلاني أو لا عقلاني/ كاتب المقال) فأضاعوا الأدب، ولذلك نرى خراط يضمّن التراث في رواياته، سواء كان تراثا شعبيا (ألف ليلة وليلة) أو تراثا كلاسيكيا، مع حضور التراث الإنساني عامة. وسيبدو هذا الأسلوب واضحا في الأعمال السابقة للذهبي على أقل تقدير. إذ يكفي أن نقرأ صفحة فهرس كتابه التدرب على الرعب/ الطبعة الثانية الصادرة قبل أشهر قليلة، لنعثر عن عناوين ذات دلالة حكائية؛ مثل قصة «واعظ الشيطان» و»طائر الوقواق» و»حلاق المدينة» و»جوارب القراصنة في أحد بوتيكات دمشق» وغيرها من حكايا لا عقلانية أو لنقل عجيبة ومجنونة. وهي قصص حرص على قصها علينا مرار وتكرارا، لنكتشف معه أنّ دمشق وأهلها ليسوا أبناء سوق فقط، بل أصحاب إرث عجيب وغريب ولا عقلاني، وفي قراءة هذا الإرث وإعادة قراءته يمكن إعادة إحياء صورة المدينة وقيمها مرة أخرى، في زمن ألف مصيبة ومصيبة.
عذراً التعليقات مغلقة