شكّلت العلاقة بين السياسي والأخلاقي معضلة لدى الإسلاميين خاصةً؛ نظرًا لتبنيهم مشاريع تولي أهمية كبرى للأبعاد الدينية والأخلاقية من الناحية النظرية والشعارات على الأقل، وقد شكل قرار حماس التصالح مع نظام الأسد مثالا على الفعل السياسي الإشكالي؛ بالنظر إلى مرجعيتها وموقع الاعتبارات الأخلاقية في ممارستها السياسية، ولذلك جعلناه مدخلا لمناقشة معايير تقويم الفعل السياسي من منظور أخلاقي إسلامي، وهذا هو المقال الثالث في هذه السلسلة.
ثمة قراران هنا: الأول مغادرة دمشق واتخاذ مسافة من نظام الأسد في بدايات الثورة السورية، والثاني إعلان الرغبة في إعادة العلاقات بعد نحو عقد من الزمان تبدلت فيها الأوضاع على الطرفين؛ فبشاعة النظام السوري بعد عقد أسوأ بكثير منها قبل عقد؛ نظرًا للجرائم التي ارتكبها، ولا تبدو حال القضية الفلسطينية أفضل بعد هذه السنين.
في الحالين نحن أمام قرار/فعل سياسيّ، ولكن الفارق أن حيثيات القرار/الفعل الأول قامت -بحسب تصريحات خالد مشغل رئيس المكتب السياسي في حينه- بناء على اعتبارات أمنية تخص قيادة الحركة نفسها في دمشق، وضغوط نظام الأسد على الحركة في ظل الثورة. أما حيثيات قرار إعادة العلاقات فلم يُصرّح بها حتى لنظرائهم في المقاومة من خارج الحركة، وبات من الواضح أيضًا أنه لا صلة لإيران بالقرار، كما أن ذلك الإعلان قوبل ببرود شديد من نظام الأسد نفسه الذي لم يرحب به، وأوضح حسن نصر الله في حوار سابق معه أن المسألة ستستغرق وقتًا. أي أن جانب الإكراه أو الاضطرار محل تساؤل، كما أن تقدير المصالح المرجوة من جانب الحركة في مثل هذا القرار غير مفهومة أيضًا ولا واضحة، فضلا عن أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا انخفض إلى النصف تقريبًا بعد الثورة، وهم كتلة غير مؤثرة في دعم الحركة، وأصابهم ما أصاب عموم المناطق السورية الثائرة من تدمير وتهجير، وفي المقابل تحسنت علاقات السلطة الفلسطينية بنظام الأسد إثر خروج حماس من دمشق.
ونظرًا لأن حماس هنا مجرد مثال لقضية أهم وأكبر، فسأناقش هنا معايير تقويم الفعل الفردي في حالتي التعذر (الاضطرار) والتعسر (المشقة)، وما إذا كانت هذه المعايير يمكن أن تنطبق كذلك على الفعل السياسي في الحالين، وما الفوارق التي تسم الفعل السياسي في السياق الحديث؟ والمدخل الأنسب لمناقشة كل هذا -في رأيي- هو مسألة الخلط بين الحسنات والسيئات أو بين المصالح والمفاسد.
أما مطلق الجمع بين السيئات أو المفاسد والحسنات أو المصالح فيتخذ حالين مختلفتين:
الأولى: أن يجمع الفاعل عملا صالحًا وآخر سيئًا مع انفكاك الجهة بين العملين، فتارة يعمل صالحًا وأخرى يعمل سوءًا؛ من دون تلازم بين الفعل السيئ والفعل الحسن، وهذه الحالة خارج محل النقاش هنا.
الثانية: أن يخلط بين الأمرين؛ بأن يتوسل بسيئة أو مفسدة (خفيفة أو مُحتَمَلة) لتحقيق حسنة أو مصلحة (راجحة)، وهذا محل النقاش هنا، ولكنني سأميز هنا بين مستويي الفعل الفردي والفعل السياسي العام.
الفعل الفردي
يتخذ التوسل بمفسدة خفيفة من أجل تحصيل مصلحة راجحة على المستوى الفردي صورتين:
الصورة الأولى: حالة التعذر (أو الضرورة) حيث تنعدم جميع الخيارات ولا يبقى إلا ارتكاب المفسدة الخفيفة لأجل تحصيل المصلحة الراجحة، فهنا تُغتَفر تلك المفسدة الخفيفة في جنب المصلحة الراجحة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب. أي إن حكم ارتكاب المفسدة هنا يأخذ درجة المصلحة الراجحة المطلوبة.
والمثال المشهور لهذه الحالة هو أكل الميتة لمن اضطر إليها؛ بحيث لو لم يفعل لهلك. فمفسدة أكل الميتة هنا مُغتَفرة في مقابل تحصيل مصلحة حفظ الحياة التي هي قيمة أعلى من الامتثال للنهي عن أكل الميتة، بل إن مفسدة عدم الامتثال للنهي الوارد عن لبس الرجال الحرير مغتفرةٌ فيما إذا كان لبس الحرير وسيلة لتحصيل مصلحة الدفء ولم يوجد غيره، مما يعني أن هذا القانون قد يسري أيضًا على الحاجة.
والقانون الحاكم هنا -بحسب ما أفادنا شيخ الإسلام ابن تيمية- أننا ننظر إلى أمرين معًا:
الأول: الفعل نفسه واستشعار سوئه.
والثاني: ما يعارضه مما يحصل به ثواب أو مصلحة تربو على ارتكاب مفسدة الفعل نفسه.
أي إننا أمام تقويم أخلاقي للفعل في زمان معين، وبحسب محددات السياق الخاص وإكراهاته، ووفق هذا المنظور قد يصير الفعل المحظور مندرجًا في المحبوب أو قد يصير المحظور مباحًا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة (كما في حالة لبس الحرير للوقاية من البرد). وقد ينعكس الأمر بحيث يكون الأمر مباحًا بل مأمورًا به (واجبًا أو مستحبًّا) وتعارضه مفسدةٌ راجحةٌ تجعله محرمًا أو مرجوحًا، كما في حالة صوم المريض والطهارة بالماء لمن خاف على نفسه الأذى أو الموت.
الصورة الثانية: حالة التعسر، أي الفعل الذي فيه كُلفة ومشقة، فهنا لا يتعين خيار واحد ووحيد كما في حالة الضرورة، ففعل الحسنة أو المصلحة فقط يَتَأتى من دون الاضطرار إلى ارتكاب السيئة أو المفسدة، ولكن تصحب فعل الحسنة هنا مشقة؛ بحيث لا تطاوع الفاعلَ نفسُه إلى الفعل، أو لا يأتي الفعلَ إلا مع كراهة من طَبعه بحيث إن نفسه لا تطيعه إلى فعل الحسنات أو تحصيل المصالح (الراجحة أو الكبار) المأمور بها (إيجابا أو استحبابًا)؛ إن لم يبذل لنفسه ما تُحبه من بعض الأمور المنهي عنها، والتي إثمها دون منفعة تلك الحسنة المأمور بها. ومثال ذلك المتعبد الذي لا تطيعه نفسه على تحقيق العبادة المشروعة والمَعرفة المأمور بها؛ إلا بنوع من الرهبانية. ومن أمثلته كذلك ما أورده ابن تيمية -بناء على مذهبه في كراهية الرأي وذم علم الكلام- من حال المتعلم الذي لا تطيعه نفسُه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين إلا بنوع من المنهي عنه من الرأي والكلام.
فهنا ثمة احتمالان:
الأول: أن نفرق بين حالتي التعذر والتعسر؛ فالتعذر مغتَفَرٌ بخلاف التعسر؛ حيث يكون ارتكاب المفسدة أو السيئة في حال التعسر إثمًا.
الثاني: أن نُنَزّل التعسر منزلة التعذر -على تَجَوز وتَسَمُّح- ومن ثم تُغتَفر المفسدة الخفيفة هنا لدفع المشقة ومن أجل التوسلِ إلى تحصيل المصلحة الراجحة.
ولكن معنى هذا كله أن ارتكاب المفسدة الخفيفة من قِبَل مَن لم يقع في حالتي التعذر أو التعسر هو اتباعٌ للهوى وإثمٌ.
الفعل السياسي
كان ابن تيمية سباقًا إلى مناقشة مسألة إذا كان لا يتأتى فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب، وقد عدّ ذلك أصلاً يُبنى عليه “جواز العدول -أحيانا- عن بعض سنة الخلفاء، كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة”. وبهذا لم يفرق بين فعل المكلف الفرد الذي يتولى شأنَ نفسه وبين فعل الإمام السياسي الذي يتولى الولاية العامة، ومن ثم فإن المعايير السابقة تنطبق على الفعل السياسي من الإمام أيضًا، وبيانه كالآتي:
الصورة الأولى: التعذر أو الاضطرار، وفي هذه الحالة يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها في ما إذا عجَز الفاعل عن فعل المأمور به (فلا تكليف بما لا يُطاق) أو اضطُر إلى فعل المحظور الخفيف لتحصيل مصلحة أعلى، أي بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا يمكن تحقيقها إلا بفعل ما مضرته أقلّ من مصلحة الفعل الآخر المطلوب.
الصورة الثانية: التعسر أو المشقة، وبيانها أن الفاعل السياسي هنا لا تطيعه نفسه للقيام بمصالح الإمارة؛ إلا بتحصيل حظوظٍ منهي عنها. فمثلا: لا يتأتى له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود الشرعية، وتأمين السبل وجهاد العدو، وقسمة المال العام، وغير ذلك إلا بارتكاب مفاسد أخف: كالاستئثار ببعض المال، والرياسة على الناس، والمحاباة في قَسْم المال العام. وفي حالة الجهاد -مثلا- لا تطيعه نفسه إليه إلا بنوع من التهور أو غير ذلك من ارتكاب بعض الشهوات. وقد رأى ابن تيمية أن مثل هذا المنحى كثر في دول الملوك (وهو يفرق بين الملك والخلافة)؛ إذ هو واقع في كثير من أمرائهم وقضاتهم وعلمائهم، وبسببه نشأت الفتن بين الأمة. وهكذا اختلفت الأنظار في تقويمهم: فقوم نظروا إلى ما ارتكبوه من الأمور المنهي عنها؛ فذموهم وأبغضوهم. وقوم نظروا إلى ما فعلوه من الأمور المأمور بها فأحبوهم. ثم الأولون ربما عدوا حسناتهم سيئات، والآخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات.
إن أوصافًا مثل: التعذر والتعسر والمفسدة الخفيفة والمصلحة الراجحة في نطاق الفعل الفردي يقدرها الفرد ويجتهد فيها رأيه، ولكنها في مجال الفعل السياسي أكثر تعقيدًا ويُشترط في إثبات تحققها بالفعل آلياتٌ قابلة للضبط والقياس وليس مجرد التخمين أو التقدير الحزبي أو الحركي.
فإذا تَعَسر فعل الواجب في (الإمارة) إلا بنوع من أفعال (المُلك) التي تقوم على الحظوظ والتسيد فهل يكون المُلك مباحًا كما يباح عند التعذر؟ هنا يسري الكلام السابق الذي قلناه في حالة الفعل الفردي كالآتي:
فإن فرقنا بين التعذر والتعسر، اغتفرنا فعل المفسدة الخفيفة في حال التعذر؛ من أجل تحصيل المصلحة الأعلى، وأثّمنا فعل المفسدة في حال التعسر؛ لأن تركها ممكن ولو كان فيه مشقة. وإن أقمنا التعسر مقام التعذر اغتفرنا أفعال المُلك الملابِسة لأفعال الإمارة في سبيل تحصيل المصالح العامة التي توجبها الإمارة. فإن عَرِيَ الفعل السياسي عن حالتي التعذر أو التعسر، عُدّ الخروج عن سنة الخلفاء الراشدين في الإمارة إلى المُلك اتباعًا للهوى وإثمًا.
وحصيلة هذه المعايير في تقويم الفعلين الفردي والسياسي العام أن السيئة أو المفسدة تُحتمل في موضعين:
الأول: دفع ما هو أسوأ منها؛ إذا لم تُدفع السيئة الأشد إلا بارتكاب السيئة الأخف، وهي قاعدة دفع شر الشرين.
والثاني: تحصيل ما هو أنفع من تركها؛ إذا لم تُحَصَّل الحسنة أو المصلحة إلا بارتكاب تلك المفسدة أو السيئة، وهي قاعدة تحصيل خير الخيرين، أي إن الموازنة هنا تتم بين الخير المرجو من ترك السيئة أو المفسدة، والخير المرجو من تحصيل الحسنة أو المصلحة.
ولكن مثل هذا القياس للفعل السياسي على الفعل الفردي يحتاج إلى بعض التحرير والتدقيق؛ إذ تجب مراعاة الفروق القائمة بين الفعلين الفردي والسياسي في عملية التقويم؛ خاصة في السياق الحديث حيث تجب مراعاة الأمور الآتية في الفعل السياسي:
الأول: أن الحديث السابق يتناول وجود سلطة شرعية (الإمامة التاريخية وما يقوم مقامها من جهة الإمساك بقرار الشأن العام بطريقة شرعية وتمثيلية)؛ فمن يتوسلون بكلام ابن تيمية لشرعنة وقائع سياسية اليوم عليهم أن يراعوا أنه كان يتحدث عن “الإمارة” الشرعية التي تمسك بموازين تقدير المصالح العامة، وهي حالة مفارقة لحالة التشكيلات الحزبية والحركية فيما دون الدولة (خاصة الحركات الجهادية التي تزعم الاستناد إلى آرائه)، ثم إن الدولة القُطرية قد تتصادم مصلحتها العامة مع المصلحة العامة لدولة أخرى، ولنا في الصراع الذي جرى مؤخرًا بسبب تصريحات الشيخ أحمد الريسوني حول النزاع على مناطق حدودية أو أراض تاريخية بين الجزائر والمغرب أبرز مثال على تصادم تقدير المصالح العامة القُطرية، كما أن تطبيع دولة ما مع إسرائيل لتحصيل مصلحة مرجوة لشعبها تتعارض مع مصلحة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم، وتحصيل مصلحة مرجوة لحركة حماس من التصالح مع نظام الأسد يتصادم مع مصلحة السوريين المعارضين، وهكذا.
الثاني: أن حيثيات الفعل الفردي وعواقبه تختلف عن حيثيات الفعل السياسي وعواقبه؛ فالأول قاصر ومسؤوليته فردية بينما الثاني متعدٍّ ومسؤوليته جماعية وتخضع لآليات مركبة في صناعة القرار أولا، وفي تقدير المصالح وآلية قياسها ثانيًا. وتنزيل هذا على السياق الحديث، أعني الصراع على الدولة والسياسة، محلُّ إشكال كبير حيث تناولت جماعات عدة مهامّ وواجبات الإمامة التاريخية في صراعها مع الأنظمة السياسية القائمة، مما يعني أن الحزبي والحركي والفعل الإمامي (السياسي العام) اختلطت، وبات السؤال عن مفهوم المصلحة العامة في هذا السياق، وموازين تقديرها سؤالا مركزيًّا، ولكن قرار المصلحة العامة لم يعد قرارًا مركزيًّا كما كان تاريخيًّا حين أُنيط بالإمام السياسي فقط واليوم بات مناطًا بأنظمة وحركات.
الثالث: أن أوصافًا مثل: التعذر والتعسر والمفسدة الخفيفة والمصلحة الراجحة في نطاق الفعل الفردي يقدرها الفرد ويجتهد فيها رأيه، ولكنها في مجال الفعل السياسي هي أكثر تعقيدًا ويُشترط في إثبات تحققها بالفعل آلياتٌ قابلة للضبط والقياس وليس مجرد التخمين أو التقدير الحزبي أو الحركي، فلا بد أن تتم وفق أطر مؤسسية ومن قبل خبرات وكفاءات وليس بمجرد الثقة بقيادة الحركة أو بشخص السيد الرئيس!
الرابع: أن مثل هذا التقويم المعياري إنما يتم قبل الإقدام على الفعل نفسه أو اتخاذ القرار بشأنه. وإذا كان هذا يستوي فيه الفعل الفردي والفعل السياسي، فإنه في الفعل السياسي آكد؛ ويجب أن يتم من خلال مؤسسات الدولة لا الحركة؛ ما دام قرارًا في شأن عامّ وليس قرارًا في شأن حزبيّ ولا قرارًا يخص الحركة وحدها؛ فتقرير المصلحة العامة ليس كتقرير مصلحة الحزب والحركة، وهو محل كلام الفقهاء عامة. فالمتعذر أو المتعسر بالنسبة لمن؟ لحركة أم لشعب؟ فكثيرًا ما يجري إقامة الحزب أو الحركة مقام الشعب والأمة.
الخامس: أن السياسي الناجح هو الذي يوسع دائرة الممكن، ومن ثم فالفعل السياسي الذي لا يتحرك إلا في إطار الضرورة دليلٌ على فشل سياسي أو على طلب ما هو متعذر لم يُكلَّف بطلبه أصلاً. والسياسي الناجح يَضيق لديه هامش الاضطرار؛ لأن الاضطرار هو انعدام الخيارات، والمُلجَأ إلى فعل معين لا يدخل في مسمى السياسة التي هي فعل الأصلح بين الخيارات المختلفة. ثم إن الاضطرار في الفعل الفردي له شروط صارمة، كتناوله ما يهدد ضروريًّا من الضروريات الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، والاقتصار في تناول المحظور على ما يسد الرمق دون الشبع أو التلذذ؛ إذ المقصود هنا درء مفسدة الهلاك لا التوسع في جلب المصالح، وألا يتسبب صون الضروري -كبقاء النفس- في الإضرار بغيره، وإذا ما سحبنا معايير تقويم الفعل الفردي على الفعل السياسي فإن هذه الضوابط تسري على الفعل السياسي كذلك، وهي مما يعسر تحققه في الممارسة السياسية لحماس وغيرها؛ والتي تتجاوز مجرد سد الرمق إلى كيل المديح بمناسبة ومن غير مناسبة لإيران وتوابعها.
السادس: أن تقويم الفعل المعيّن بحسب سياقه ووفق الأحوال والقرائن المحتفة به -وهو ما يتطلبه النظر التطبيقي- لا يُلغي ثبات المبدأ الأخلاقي المجرد، كما لا يعني التطبيع مع السيئات أو المفاسد الخفيفة، وذلك أننا إنما نتحدث هنا عن (الخلط) بين عمل صالح وآخر سيئ، وعن أن الشريعة لا تأمر بالسيئة أو المفسدة، وأن حظوظ النفس ليست مسوِّغًا للفعل السيئ؛ إلا إذا دلت الشريعة على الإعذار فيه، ومع ذلك فالفاعل يتدرج فيه إلى أن يتخلص من حالة التعذر أو يتجاوز حالة التعسر، وقد حكى ابن تيمية أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يستعمل في السياسة من فيه فجور؛ لرجحان المصلحة في عمله؛ ثم يُزيل فجوره بقوته وعدله.
وإذا اعتبرنا فعل التقارب مع نظام الأسد مفسدة خفيفة، فإننا لا نقف هنا على المصلحة الراجحة التي استوجبت فعل تلك المفسدة، بل اتضح الآن أن القرار كان من طرف واحد فقط؛ إذ لم يهتم نظام الأسد بذلك الإعلان، بل على العكس يرى أن الحركة ناكرة للجميل. ولو افترضنا أن فعل المفسدة الخفيفة هنا لا بد منه لتحصيل مصلحة راجحة نجهلها، فإن من الصعب إثبات أن ثمة تعذرا أو تعسرا؛ فليس ثمة ما يستدعي ذلك في حالة نظام ضعيف يعاني على كل المستويات السياسية والاقتصادية وغير قادر على مساعدة نفسه رغم نجاحه في البقاء في السلطة. ثم لو افترضنا وقوع التعذر أو التعسر فإن باقي المعايير لا تتوفر هنا؛ من حيث إننا نتحدث هنا عن فعل حركة وليس فعلا إماميا (أو دولة) ولا حتى فعل على مستوى حركات المقاومة جميعًا التي تشخص المصلحة العامة.
ثم على فرْض تحقق جميع ما سبق، فإن الواجب هنا أن التحالف -إن وقع- في المتفق عليه يجب ألا يؤثر أو يُفهم منه إقرارٌ للحليف على المختلف فيه أو تأييد له أو إضفاء مشروعية عليه، وإلا فالسكوت عنه والاسترسال معه يدل على تأييده في ظلمه أو عدم المبالاة في أحسن الأحوال، وهنا يتأكد واجب آخر، وهو التبرؤ من فعل الظلم بدل الاقتصار على الإشادة بإيجابيات الظالم فقط على طول الخط؛ الأمر الذي يؤدي إلى تثبيته على ظلمه من جهة، ويسهم في تجميل صورته بدعم المقاومة من جهة أخرى، وهو ما دأبت حماس -مثلا- على فعله بخصوص إيران وتوابعها. أي إن تقويم الفعل هنا يخضع للدوافع إليه، وجدواه وعواقبه الراجحة أو المتَيَقَّنة لا المظنونة أو الموهومة، فما بالك بقرار تم من طرف واحد فقط ولحساب مجموعة ضيقة، وهو جزء من سياسة مضطربة أوسع شملت إيران والحوثيين وغيرهما، كما سبقت الإشارة في المقالات السابقة.
عذراً التعليقات مغلقة