بعد قرابة مرور مئتي يوم على بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا، سجلت الأيام الأولى من شهر أيلول الحالي تقدّماً كبيراً لقوى الجيش الأوكراني التي قامت بتنفيذ هجوم معاكس في منطقتين محتلتين روسياً هما شمال شرق وجنوب البلاد. وقد تمكنت القوات الأوكرانية اعتباراً من السادس من أيلول وحتى الثاني عشر منه، من استرجاع أكثر من 3000 كم مربع من الأراضي التي احتلتها قوات موسكو منذ نيسان الماضي. وبعد أن استعدت موسكو لهجوم مضاد أوهمتها كييف بأنه سيتم في الجنوب، وقامت بحشد قواتها لصدّه، فوجئت بهجوم خاطف ومنظّم في الشمال الشرقي. ويعتبر هذا الانتصار الجزئي هو الأكبر منذ تمكن قوات كييف من دحر الهجوم الروسي على العاصمة كييف والذي كان الكرملين يسعى من خلاله إلى القضاء على الحكومة الأوكرانية المنتخبة وإحلال نظام عميل لموسكو.
الضباط والجنود الأوكرانيون أثبتوا، ومنذ بدء الغزو الروسي في شهر شباط الماضي، علو كعبهم وفاعلية مقاومتهم لصد هجوم تقليدي يمكن توصيفه بالمتخلف في العلوم العسكرية. حيث تميّز منفذوه أيضاً، إضافة الى ضعفهم التكتيكي والتنظيمي، بصفات الجيوش غير المنضبطة من خلال ارتكاب جرائم حرب موصوفة وسرقات مصوّرة. كانت هذه التصرفات بلا شك تدل أساساً على غياب الدافع الوطني لدى جنود أقحموا في حربٍ على جارٍ تقليدي لديهم معه علاقات ثقافية واجتماعية ودينية راسخة في القدم. وعلى الرغم من توفر العامل الوطني لصد الاحتلال، إلا أن التسليح الوفير والذي زوّدهم به الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، قد لعب دوراً أساسياً في تحقيق هذا التقدم. يُضاف الى هذا استعانة القوات الأوكرانية بمعلومات ثمينة حول تحركات الروس من أجهزة الاستخبارات الغربية. وقد سمح لهم هذا تحديداً بتحريك قواتهم خارج الحيّز الزمني الذي كانت تمر من خلاله الأقمار الاصطناعية الروسية بحيث غابت تحركاتهم تماماً عن سمع ونظر موسكو. وأخيراً، وإلى جانب الاستعلامات والتسليح والشعور الوطني، هناك عامل هام جداً لا يجب إغفاله ويتمثّل بمستوى التدريب. فجنود وضباط كييف يتدربون منذ 2014 من خلال برامج حلف شمال الأطلسي.
وقد توالت الأخبار الموثّقة والمشاهد المصورة من عدة مصادر، والتي تُمكّن مقاطعتها فيما بينها من استبعاد أي هامشٍ للشك، لتؤكد انسحاب القوات الروسية بطريقة عشوائية تاركة وراءها مئات من الآليات المدمرة كما العشرات من تلكم الصالحة للاستعمال إلى درجة أن الوليد الحديث للصناعات الحربية الروسية، وهو الدبابة ت 80، كان من ضمن الغنائم الأوكرانية. وقد أشار بعض الشهود إلى لجوء الروس للتنكر بلباس مدنية تغطية لهروبهم غير المنظم.
كل ما سبق، لم يتمكّن من إقناع كثير من الرأيين العامين العربي والإفريقي المستمرين بالتعبير عن أعجابهما بالقيصر بوتين، وصولاً إلى اعتباره أنه المهدي المنتظر ـ دون أوهام دينية. الذي مرّغ وجوه الغرب “الاستعماري والإمبريالي” في وحول الغابات الأوكرانية. وقد تقاطع أيتام صدّام حسين من الذين يحنّون لمعذّبهم ومشرّدهم وقاتلهم، بما يتجاوز متلازمة ستوكهولم بمراحل، مع المعجبين بحاكم روسيا المتسلّط والمستمر في تسيير أمور البلاد والعباد، مباشرة أو التفافاً، منذ 22 عاماً. إنه “البطل الأسطوري” الذي تحتاجه مخيّلات أوهنتها عقودٌ من الترهيب والتجهيل، والذي لا يتوانى عن تحدي الغرب سعياً لأن يحدّ من تحقيقه لطموحاته، خصوصاً في الدول غير النامية سياسياً ولا اقتصادياً ولا معرفياً.
العجز البنيوي عن تجاوز الإحباطات والخيبات المتلاحقة التي يلعب العامل الأساس فيها تمكن المستبدين من أُسَراء الاستبداد عبر وسائل مختلفة، يدفع بمن يبحث عن دريئة يستخدمها للتغطية على هذا العجز إلى الوقوع في فخ الإعجاب بمستبدين جدد حتى ولو كانوا بعيدين جغرافياً عنه. ومن المؤكد أن الأداء الغربي مع هذه الشعوب إبان حقبة الاستعمار البغيض، إضافة إلى ما رافق بناء الدولة الوطنية من إهمال لحقوق الشعوب على حساب التقرّب من المُنتقى من الطغاة، قد ساهم في تنمية رد الفعل المستند إلى نظرية الارتباط الشرطي البافلوفي لدى شريحة واسعة من هذه الشعوب.
يتقاطر أيتام بوتين اليوم إثر هزيمة قواته الأخيرة، وغير الحاسمة بعد، على وسائل التواصل الاجتماعي ليهرفوا بتحليلات ما أنزل الله بها من سلطان. حيث تجتمع في جنباتها أخبارٌ تنفي ما هو مُثبت، أو أنها تسعى لإيجاد تبريرات عجائبية للانهيار الروسي محيلةً إياه إلى مؤامرة غربية بمساعدة مخلوقات فضائية لا يحلو لها أن يُسيطر حامي الفقراء والجياع، فلاديمير بوتين، على مصائر الشعوب ليُخرجها من تبعيتها إلى الغرب “الفاسد والمفسد”. وهم على هامش هذا اللهو الفكري لا يفتؤون يدعون إلى النقاش القائم على قواعد خطّوها بأنيابهم: إما أن تقبل ما أقول أو أنك من التابعين للخارج. والخارج هنا حتما هو الخارج الذي لا يحلو لهم. أما “خارجهم” فهو الخارج المُخلّص القادر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء قروناً.
أيتام بوتين يُحاكون أيتام صدّام أو هم من الصنف عينه. يأتيهم مُعزّزاً من جبروتهم اللفظي.
Sorry Comments are closed