أصدر المجلس الإسلامي السوري -في الأيام القليلة الماضية- بيانًا أدان فيه عَزْم حركة حماس إعادة علاقتها بنظام بشار الأسد في سوريا، وأوضح المجلس أن لقاء بعض المشايخ بإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس إنما كان بغرض “التحذير” لا “المباركة”، وأن الحركة إن تصالحت مع نظام الأسد “ستضع نفسها في حالة مفاصلة واضحة مع الأمة، وستعزل نفسها عن مشروع قادة الحركة المخلصين الأوائل لتنتقل إلى صف الولي الفقيه والمليشيات والعصابات الطائفية بمواجهة شعوب المنطقة وأبنائها الأحرار والتاريخ والمبادئ والقيم”، بحسب نص البيان.
يأتي هذا البيان تتويجًا لأحداث سابقة بدأت حين التقى وفد من المشايخ -من مختلف الجنسيات والتشكيلات- بإسماعيل هنية، وقد أثار اللقاء -بعد تسريبه- جدلا حادا؛ فقد رأت شريحة من الناس أن مجرد الاجتماع بقادة حماس مشكلة؛ الأمر الذي شكل ضغطا على بعض المشايخ ودفعهم إلى إصدار بيان يوضح أنهم إنما التقوا قيادة حماس لثَنْيها عن قرار التقارب مع النظام السوري الذي ينطوي على “مفاسد عظيمة لا تتفق مع المبادئ والقيم والضوابط الشرعية”، وقالوا: إنهم طالبوا الحركة بأن “تقوم بمراجعة القرار وإعادة دراسته في ضوء ما ذكره العلماء” بحسب نص البيان الأول.
وفي المقابل، انحاز الشيخ أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين إلى تأييد قرار حماس؛ باعتباره قرارًا مصلحيًّا خادمًا للمقاومة، بينما رأى الشيخ علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد أن القضية “اجتهادية وليست مبدئية أو نصية”؛ فهي تتعلق بالسياسة، “والسياسة -فيما عدا المبادئ- واسعة جدا”، وقال القره داغي إن هدفه هو تثبيت المقاومين ودفع أي تردد قد يطرأ في هذا السياق، وتجنيب قيادة حماس أن توصف “بأي شيء مما يخالف الشرع”.
تثير هذه المعطيات 5 أمور رئيسة:
أولها: أن ثمة منظورا يجعل من حقل السياسة شديد المرونة ومفتوحا على المصلحة التي تلتبس بالبراغماتية؛ فكل الوسائل مشروعة ما دامت تحقق الغرض الحركي، وهنا يتراجع المبدأ نفسه في حقل الممارسة السياسية لتتقدم المصلحة، وهنا يغدو من المشروع السؤال عن الحد الذي يبدأ عنده المحظور الأخلاقي؛ فالتطبيع بل التحالف مع إسرائيل له مسوغاته المصلحية أو الاضطرارية كما هو جار الآن في المغرب وتركيا، والتطبيع مع الأسد له مبرراته أيضًا.
وثانيها: أننا أمام موقفين متغايرين هنا، موقف حركي تجمعه الأيديولوجيا السياسية وينتسب إلى بلدان بعيدة جغرافيًّا عن موضوع النقاش (سوريا واليمن)، وموقف مشيخي هو جزء من المعارضة السورية أو محسوب عليها على أقل تقدير، وإن كان بعض مكونات المجلس الإسلامي السوري من الإخوان السوريين.
وثالثها: أن تفاصيل الحوار الذي جرى أثناء لقاء المشايخ بهنية تعكس اختلاف المنطلقات بين الفريقين؛ ففريق المشايخ تحدث عن “مفاسد” وعن “المبادئ والقيم والضوابط الشرعية”، بينما تنطلق قيادة حماس من فكرة أن القرار تم اتخاذه وفق “الأطر والآليات” التنظيمية للحركة، كما أنها لم تُوضح مسوغات القرار لبقية فصائل المقاومة بحسب ما توفر لدي من معلومات من مصادر مباشرة، دع عنك تبريرات المتطوعين لها؛ فنحن نبحث في حيثيات اتخاذ القرار بالنسبة للحركة نفسها.
ورابعها: أننا أمام مواقف سياسية بامتياز، ولكن يمارسها مشايخ من مختلف الأطراف. فمواقف حماس وقادة الاتحاد العالمي هي مواقف سياسية ترى الأولوية في دعم حركة حماس تحديدًا (وهي فصيل من الفصائل الفلسطينية)، وموقف المجلس الإسلامي السوري موقف سياسي أيضًا؛ لأنه يرى أن الأولوية هي للموقف من النظام السوري الذي ارتكب جرائم ضد الإنسانية وهجر أضعاف من هجّرتهم إسرائيل من فلسطين بمن فيهم فلسطينيو سوريا. ولكن ثمة فارق مهم بين الفريقين هنا: فحماس تمارس الدين على أرضية السياسة بينما يمارس المجلس السوري السياسة على أرضية الدين، وسبق أن نبهت إلى دوره الملتبس سواءٌ في تعريفه لدوره أم في ممارساته.
وخامسها: أن هذا النقاش يثير 3 مفاهيم رئيسة هي محل إشكال نظريا وعمليا بالنسبة لهؤلاء الفاعلين، وهذه المفاهيم هي المصلحة والأمة والسياسة.
أما بخصوص مفهوم المصلحة فهو -كما أوضحت في مقال سابق- ملتبس بمفهوم البراغماتية لدى الإسلاميين؛ فهو مفهوم مرن قادر على تبرير أي فعل يصدر عن الإسلاميين وحدهم دون غيرهم، فما الخط الفاصل بين المصلحي والانتهازي في الفعل السياسي؟ وما المحظور السياسي الذي لا يمكن التغاضي عنه إذا صدر عن إسلامي؟ وهل يتحدد المحظور السياسي وفق اعتبارات حزبية أو قطرية أو معيارية ثابتة متجاوزة لكل تلك المنظورات الضيقة؟
أما بخصوص مفهوم الأمة فهو مفهوم غائم كذلك، ومن ثم بات السؤال عمن يمثل الأمة وعن آليات تمثيلها سؤالا مشروعا مع ابتذال مفهوم الأمة في واقع دول قطرية وحركات هي دون الدولة بل ومعارضة للدولة سواء بالنسبة لحركات المقاومة الفلسطينية أم لحلفائها كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن؛ فحماس والاتحاد العالمي والمجلس الإسلامي السوري وإيران يتحدثون -جميعا- باسم الأمة؛ في حين أننا أمام رؤى متضاربة ومتنافسة على تمثيل الأمة لحسابات سياسية حزبية وقطرية وطائفية أيضا. بل إن تصريح بعض قيادات حماس بأن الأمة هي من يقف مع المقاومة (وهي في هذه الحالة تُختَزل في حماس تحديدا) يشبه المفهوم الإسماعيلي للأمة التي تتحدد بمن يكون مع الإمام ولو كان فردا.
والواقع أن قضايا الأمة في العقد الأخير تعددت وتباينت أولويات مكوناتها المختلفة، ومن ثم لم تعد قضية فلسطين هي القضية الوحيدة كما كانت قبل ما سمي “الربيع العربي”، كما أنها لم تعد استثناءً؛ فضحايا الثورات والثورة المضادة ومآسيها فاقت ضحايا القضية الفلسطينية عبر تاريخها قتلاً وتدميرًا وتهجيرًا وتعذيبًا، ومن ثم برزت تناقضات عديدة على السطح، وشهدنا موجة من التطبيع مع إسرائيل في المغرب والخليج، والآن يجري التطبيع مع نظام الأسد وإيران وجماعاتها التي عاثت فسادًا في دول المنطقة، ومن بينها العراق الذي لا يتحدث عنه أحد في هذا الجدل الدائر. وقد أحدثت التطورات السياسية خلال العقد الأخير خلافا داخل حماس أدى إلى تبدل في القيادة السياسية وآليات التمويل وموازين القوى والارتباط بإيران وجماعاتها.
أما بالنسبة لمفهوم السياسة، فقد باتت مفهوما غائما كذلك، ولو حاكمنا الإسلاميين إلى تعريفات السياسة لدى أئمة المسلمين السابقين -ولعل أبرزهم ابن عقيل الحنبلي الذي عرفها بأنها ما يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد- لوجدنا أننا أمام سياسة غير السياسة؛ فالحركات الإسلامية هي حركات حزبية تمارس السياسة وفق منطق الحركات الحزبية ليس أكثر.
لم تكن الأفعال السياسية لقيادة حماس الحالية (كعزم التقارب مع نظام الأسد، وتهنئة جماعة الحوثي بعيد الأضحى، وتعزية الإمارات بوفاة رئيسها السابق، وتمجيد قاسم سليماني من قبل) لتثير أي إشكال إذا صدرت عن حزب سياسي صريح في براغماتيته يسعى وراء السلطة أو المصالح السياسية لحزبه، وهي مصالح مشروعة وفق منطق العمل السياسي العام.
ولكن سلوك حماس يثير الكثير من “الأسئلة المشروعة”؛ لأنها حركة تقول إن مرجعيتها إسلامية، وهي جزء من حركة كبرى قامت على أساس “تحكيم الشريعة” وأطروحة “الأمة الإسلامية”، بل من الواجب عليها أن تقدم مسوغات تتفق مع مرجعيتها ومقولاتها؛ وفاء لمبادئها أولاً، واحترامًا لجمهورها ومنتسبيها الذين لهم حق عليها ثانيًا، وبيانًا للشعوب التي قد تتأذى من سياستها ثالثًا، بل وفق منطق براغماتي رابعًا؛ نصرةً لقضيتها ولعدم التفريط في حاضنتها الشعبية، وهو جزء من صميم مصلحتها بوصفها حركة سياسية.
تقع الجوانب الثلاثة الأولى السابقة في صلب السؤال عن الفارق الذي تُحدثه “المرجعية الإسلامية” في الممارسة السياسية، وهنا فقط يظهر ما يميز فعل السياسي “الإسلامي” عن فعل السياسي غير الإسلامي؛ خصوصا أن قسطا كبيرا من شرعية الحركيين الإسلاميين تقوم على ادعاء هذا الفارق؛ لأنه إذا انتفى الفارق هنا ستنهار أطروحة “المرجعية الإسلامية” التي لا تُحدث أثرًا في الفعل السياسي أو لا تحضر إلا في تبرير الفعل السابق عليها (وهو ما عنيته بممارسة الدين على أرضية السياسة)، ثم إن الورقة الوحيدة التي بقيت للإسلاميين -بعد تجربة “الربيع العربي”- هي أخلاقيتهم أو مبدئيتهم فإذا خسروها لم يتبق لهم شيء.
من المفارقة أن العديد من أبناء الحركة يَظهرون نقديين للغاية حين يتعاملون مع الأنظمة السياسية أو الأحزاب الأخرى، ولكنهم حين يتعاملون مع سياسات تتخذها قياداتهم أو حركاتهم يُبدعون في التبرير والتماس الأعذار التي تتعطل معها ملكة التفكير النقدي أو النقاش البرهاني.
ومن المؤسف أن بعض المتحزبين لحماس يسخرون أو يستخفون بالسؤال الأخلاقي لصالح العمل الحزبي، ويحولون الأمر من نطاق النقاش الفكري الجدي إلى نطاق التبرير الحزبي، وقد تأملت كلام التبريريين فوجدته يرجع إلى الآتي:
عدّ مآثر الحركة وتنزيهها عن أي خطأ؛ لمجرد الثقة بها وبقادتها والتضحيات التي قدمتها، رغم أن خالد مشعل -وهو أبرز قادتها- لا يفتأ يصرح بأن الحركة قد تخطئ في تقديراتها وسياساتها. ويعكس هذا المسلك عدم القدرة على التمييز بين تقويم فعل أو سياسة محددة قد يكون خطأ وبين تقييم الحركة ككل، كما يعكس استخفافا بتضحيات جسيمة لشعوب في المنطقة كسوريا والعراق واليمن، وهو موقف متطرف يقابل من يُسقط كل تاريخ الحركة لأجل سياسة معينة، ومثل هذه المواقف الحدية هي مواقف إيمانية لا تنتمي إلى السياسة؛ فهي مسلك حزبي محض.
شخصنة النقاش وعدم القدرة على التعامل النقدي مع الفعل السياسي بقطع النظر عن فاعله، وذلك باستحضار ثنائيات مثل القاعد والمجاهد، ومن يده في النار ليس كمن يجلس تحت المكيفات، ونحو ذلك مما هو أقرب إلى الردح؛ لأن القائل يتجاهل أن قيادات العمل الإسلامي نفسه تفرقت في المنافي وأن قادة حماس وقادة النضال ضد الاستبداد في عدة دول سواءٌ في الملاحقة والمعاناة، وأن قادة حماس السياسيين يستعملون المكيفات والفنادق الفارهة أيضًا، من دون أن يُعد ذلك نقيصة في حقهم؛ لأنه أجنبي عن النقاش برمته.
التماس تبريرات مطاطة صالحة لتبرير أي فعل صدر عن أي فاعل، كالقول المجمل بالمصالح المبهمة دون الدخول في حيثياتها وتفاصيلها وبأي معنى هي مصالح، وما المفاسد المجتنبة؟ وهل الموازنة هنا بين مفاسد ومصالح أم بين مفاسد فقط؟ وهل هي مفاسد للحركة أم للقضية الفلسطينية برمتها؟ وهل وقع التشاور بين قادة فصائل المقاومة جميعًا لتقدير هذه المصالح والمفاسد أم هو تقدير حزبي على مستوى حركة لا تمثل القضية الفلسطينية وإنما هي فصيل من فصائلها؟
وكالقول: إن المسألة اجتهادية أو مشتبهة في أحسن الأحوال؛ لتجنب اتخاذ موقف ومسك العصا من المنتصف، أو كالقول بالاضطرار وأكل الميتة دون البحث في حقيقة الاضطرار وهل بلغ الأمر مبلغ الهلاك دونها؟ وما الحد الفاصل بين الشبع وبين سد الرمق في تناولها بعد التسليم بالضرورة، إلى غير ذلك من التفاصيل الضرورية التي يتم القفز عليها عمدًا؛ لأن الهدف هو التبرير وليس النقاش الجدي والنقدي وتحقيق مناط الأحكام.
ولعل أطرف أنواع التبرير القول: إن القيادة قد تتخذ من القرارات ما قد يظهر للعامة أنه مرجوح، ولكن هذه القرارات راجعة -في الأمر نفسه وعند الترجيح- إلى الموازنة بين المصالح والمصالح، والمفاسد والمفاسد؛ وكأن “الأمر نفسه” يمكن الوقوف عليه؛ كما أن قائل هذا يخلط بين تصرفات حركة هي فصيل من فصائل في الداخل الفلسطيني وبين قيادة الدولة أو الإمامة في التراث الفقهي الكلاسيكي، كما أنه يفترض أن القيادة لا تخطئ أبدًا؛ ففعلها في أدنى أحواله مرجوح، ثم هو يحتكم إلى تصورات ما قبل الدولة التي تفصل فصلا تاما بين القيادة التي تعرف والعامة الذين لا يعرفون فأدخل كل النخبة الدينية والفكرية والسياسية التي لا تنتمي للحركة في دائرة العامة، وهذا لا يمت إلى السياسة الحديثة بصلة؛ فهو تصور حزبي غير تاريخي ولا معاصر.
ومن المفارقة أن العديد من أبناء الحركة يَظهرون نقديين للغاية حين يتعاملون مع الأنظمة السياسية أو الأحزاب الأخرى، ولكنهم حين يتعاملون مع سياسات تتخذها قياداتهم أو حركاتهم يُبدعون في التبرير والتماس الأعذار التي تتعطل معها ملكة التفكير النقدي أو النقاش البرهاني. فإعمال التفكير النقدي داخل الحركات والأحزاب الإسلامية من شأنه أن يوجِد رأيا أو موقفا مختلفا لا تطابقا في المواقف على طول الخط، ولكن هذا الاختلاف لا يحتمله الانتماء الحزبي والهياكل التنظيمية؛ فالناقد قد يعرّض نفسه للمساءلة أو الفصل.
والتفكير النقدي لا يقدم الثقة على الفكرة، كما أن من شأنه أن يبحث في التفاصيل والسياقات وموازين القوى داخل الحركة نفسها ليقف على المؤثرات والخلافات الداخلية فهو لا يتحدث عن كتلة موحدة تتخذ الرأي ونقيضه في القضية الواحدة في زمانين مختلفين دون ملاحظة تغير القيادة مثلا أو تغير الحسابات، وما الفارق المؤثر فيها، ولمصلحة من؟ وما الضغوط التي مورست؟ وما حسابات الربح والخسارة؟ ولصالح من؟ وأي القرارين أسدّ سياسة وأخلاقًا؟ والتفكير النقدي لا يتجاهل مسوغات المواقف المختلفة التي تمس الموضوع الواحد (كالقطع مع النظام السوري والعودة إليه التي تعني الاعتراف بالخطأ أو تبدل مصالح الحركة).
وإذا كنا سنسلم لقيادة حركة ما بجميع الأمر؛ لأنها أعرف بالخبايا وتفاصيل المصالح، فلنسلم لولي الأمر على طريقة الشيخ عبد الله بن بيه إذن الذي يستخدم الحجج نفسها التي يستخدمها التبريريون؛ وعندها سيجد هؤلاء أنفسهم أمام سؤال يتناول شرعية الحركات الإسلامية نفسها؛ لأنها ستغدو حينها حركات انشقاقية داخل النظام العام، أو أنهم سيواجهون تناقضًا صارخًا بين أن يكونوا موالين في بلد وثوريين في بلد آخر.
عذراً التعليقات مغلقة