قال لي أحد أقارب اللبنانيين من أبناء مدينة طرابلس الذين غرقوا في مركب الموت قبل نحو شهرين أثناء رحلة هجرة غير شرعية، أن مسؤولاً أمنياً لبنانياً فاوضهم على مقايضة صمتهم حول تقصير الحكومة اللبنانية في البحث عن جثث أبنائهم، بأن تغض أجهزة الدولة النظر عن رحلات الهجرة غير الشرعية في المرحلة المقبلة! لم يتح لي مطابقة ما قاله مع مصدر آخر، لكن ما سمعته منه، وفي ظل معرفتي بطبيعة عمل النظام في لبنان، قابل للتصديق، فنحن في لبنان حيال سلطة يمكن أن تراكم الفضائح يومياً، وهي مستعدة للمساومة على كرامة مواطنيها إذا ما أمنت لها هذه المساومة مصلحة.
وقضية مركب الموت الطرابلسي سريعاً ما صارت خلفنا. غرق أكثر من أربعين مواطناً، ومات من مات وتيتم من تيتم، واستأنفت السلطة في اليوم الثاني مهمتها المتمثلة في المحافظة على نفسها وعلى ممثليها وأحزابها. جثث أكثر من ثلاثين مواطناً ما زالت عالقة في غرفة قيادة المركب على مسافة ليست بعيدة عن الشاطئ، وفي هذا الوقت ينشغل زعماء المدينة في محاولات الحصول على حصص لهم في الحكومة العتيدة.
الطرابلسيون الغرقى كانوا يحاولون الهرب من الجحيم اللبناني، الجحيم الذي تسبب به النظام. انضموا إلى ضحايا انفجار المرفأ، وإلى قتلى تفجير مخزن الوقود في عكار. النظام قتلهم، وأركانه الفاسدون كانوا في يوم الموت الطرابلسي يمضون ليلتهم هانئين بما نهبوه. نحن هنا لسنا حيال تشبيه أو استعارة لغوية، انما هذا حرفياً ما جرى. فالفقر والجوع الذي تشهده بؤر الفقر اللبناني وعلى رأسها مدينة طرابلس تسبب به النظام الذي يتلكأ اليوم في البحث عن جثث أهل المدينة. لقد كانوا يسعون للنجاة من الكوابيس التي تسبب بها الانهيار، وإذ بمركب للجيش اللبناني يلاحقهم ليمنعهم من النجاة. غرق مركبهم بهدوء وقضت عائلات بأكملها، وما زالت فصول المأساة تتوالى عبر عجزهم عن الوصول إلى الجثث الناجية.
مأساة مركب الموت تقتصر اليوم على حزن أهل الضحايا. وهي انحسرت أكثر فصارت هم العائلات التي لم تعثر على جثث أبنائها. لعبة الوقت لصالح المرتكب، والقول إنها مسألة أيام وتنقضي الفضيحة صحيح في ظل معادلة أن فجيعة اليوم تمحي آثار فجيعة الأمس. لكن تعاقب الفجائع يؤسس لوعي قاتم يحيل العيش إلى دورة متواصلة من الكآبة والرغبة في الإفلات من الحياة. وهنا يصبح رصد مؤشرات العنف أمراً واجباً. وفي لبنان لسنا بعيدين عن تحول اليأس إلى عنف وإلى جريمة وإلى انتقام.
اليوم ابتعدت مأساة مركب الموت الطرابلسي عن هموم اللبنانيين المتراكمة. صارت حادثة خارج الوقائع اليومية، ووحدهم أهل الضحايا منشغلون بالبحث في قعر البحر، تعوزهم غواصة صغيرة كلفة استقدامها نحو مئتي ألف دولار، وهو مبلغ لا يوازي ما يسرقه يومياً أصغر مسؤول في هذا النظام!
الواقعة صارت خلفنا، وها نحن ننتظر مشهد الغرق المقبل ليشغلنا ليومين نراكم خلالهما غضباً ونقلع بعدها بحثاً عما يساعدنا على تدبير حاجاتنا. أنها دورة الجحيم اللبناني التي تفوق في اشتغالها الدورة الخلدونية. كارثة تعقب كارثة، والعجر هو السمة الثابتة حيال ما يصيب الناس. في هذا الوقت تواصل السلطة تصريف حاجاتها بوقاحة منقطعة النظير، فتعلن على الملأ أن خطتها الإصلاحية تبدأ من ابتزاز المجتمع الدولي بقضية اللاجئين السوريين، فيعلن رئيس الحكومة الملياردير الطرابلسي نجيب ميقاتي أنه سيعيد اللاجئين بالقوة إلى سورية إذا ما لم يتحمل المجتمع الدولي كلفة بقائهم في لبنان. هذا تماماً ما يدفع المرء إلى تصديق ما قاله قريب ضحايا مركب الموت نقلاً عن مسؤول أمني. تصمتون على قتلاكم فنغض النظر عن مراكب الهجرة غير الشرعية! فميقاتي، كما مرؤوسه، يريد مزيداً من الأموال للاجئين ليعوض الخسائر التي تسبب بها فساد المنظومة! هذا هو الإصلاح الذي يعدوننا به.
السلطة هي من قتل الطرابلسيين الغرقى، فهؤلاء لم يغادروا في المركب الهش لأنهم راغبون بالقيام برحلة. كانوا هاربين من المصير الذي أخذتهم إليه المنظومة الحاكمة. كانوا يعرفون ان احتمال الموت يفوق احتمال النجاة، وعلى رغم ذلك حملوا أطفالهم وأقلعوا. وفي هذا الوقت لم يرف جفن لأصحاب المليارات من أبناء المدينة ومن رفاقهم في السلطة. العرض الوحيد الذي تقدموا به للضحايا، هو أن يتيحوا لهم رحلات موت موازية، على ان لا تعترضها دوريات الجيش.
عذراً التعليقات مغلقة