تعرّفت إلى لقمان سليم، رحمه الله، والذي اغتالته المنظومة الأمنية / المقاومة في جنوبي لبنان في 4 شباط / فبراير سنة 2021، في خضم نشاطه المحموم لتوثيق شهادات عدد كبير من الناجين من المعتقلات السورية ومنهم الكثير من الأصدقاء. وقد جهد سليم بتؤدة وبتصميم على أرشفة عدد هائل من الوثائق الصوتية والمرئية والمكتوبة التي تتعلق بالسجون في منطقة الشرق الأوسط عموماً. كما ضم مركزه التوثيقي الذي اختار له تسمية “أمم للأبحاث والتوثيق”، العديد من الملفات المتعلقة بتاريخ لبنان وفلسطين والعديد من دول المنطقة الأخرى. وقد ركّز “أمم” في عمله على توثيق تفاصيل الحرب اللبنانية الأهلية التي اكتفى الفاعلون بطي صفحتها من دون الخوض في أسبابها لتلافي عودة اشتعالها.
كان حب لقمان سليم للغة العربية وولعه بالخوض في القضايا المبدئية المرتبطة بالحريات في التعبير وفي التفكير، هما مصدرا وحي رئيسي لديه. وكان المرحوم يدعوني دائما لزيارته في مقر مؤسسته الرائدة الواقع في حارة حريك في بيروت. وكنت دائماً أتجنب تلبية هذه الدعوة لخوف ما يعتريني كلما اقتربت من المناطق الخارجة عن سلطة القانون ـ ولو كانت هذه السلطة منقوصة ـ وكذلك حيث ترتع مجموعات مسلحة ادعت يوماً انتماءها للمقاومة وحاربت في أيام أخرى في مناطق شديدة البعد عن الحدود مع العدو الإسرائيلي شمالاً وقتلت الآلاف من السوريين. وعلى الرغم من أن التهديدات التي كان يتعرّض لها من قبل حاملي كاتم الصوت وأصحاب الولاءات الخارجية لم تنقطع أبداً، إلا أنه كان مصرّاً على البقاء في حيّه الذي ولد فيه.
قرّر أن يُجرّب أسلوباً جديداً في التوثيق والذي يعتمد على قيام المعتقلين بلعب أدوارهم الحقيقية أمام عدسة الكاميرا
استمرت التهديدات ضده لنشاطه المستمر ولجرأته المدهشة من دون أن تترجم إلى فعل إلى أن وقع انفجار 4 آب / أغسطس الهائل في مرفأ بيروت سنة 2020. حينها، بدأ لقمان بوضع النقاط على الحروف أمام أجهزة الإعلام وذلك من خلال توجيه أصابع اتهام لا ترتجف نحو من اعتبر بأنه المسؤول الأول عن هذه الجريمة الكارثية التي حلّت بلبنان وأودت بحيوات العشرات من المدنيين. حينها فقط، قرّرت قوى الأمر الواقع المسيطرة أنه يجب أن يلوذ بصمت مستدام، فاغتالته بكل ما أوتيت به من حقد وتشوّه خلقي وأخلاقي.
من خلال عمله التوثيقي هذا، وبعد أن استمع طوال ساعات إلى سرديات معتقلين لبنانيين سابقين لدى النظام السوري في سجن تدمر الصحراوي الأشهر، قرّر أن يُجرّب أسلوباً جديداً في التوثيق والذي يعتمد على قيام المعتقلين بلعب أدوارهم الحقيقية أمام عدسة الكاميرا. فعكف هؤلاء على بناء ما يشبه كثيرا زنزانتهم في تدمر، وبدؤوا باستعادة ما احتفظت به ذاكرتهم من تفاصيل المعاملة الوحشية والتعذيب الممنهج الذي تعرضوا له. في هذه التجربة التوثيقية المرئية، خاض لقمان وزوجته مونيكا، تجربتهما الثانية بعد أن قاما عام 2005 بتوثيق مجازر صبرا وشاتيلا عبر شريطٍ مصوّر بعنوان “مذبحة”.
المعتقلون السابقون حاولوا في هذا الشريط المرئي أن يعكسوا بشفافية، يعتريها الكثير من الألم، تجارب السنوات السوداء التي أمضوها في سجن تدمر. وأمام الكاميرا المرتعشة من هول ما تسجله، تمكنوا من نقل المشاهد إلى داخل الزنزانة حتى كاد المتابع أن يشمَّ رائحة بطانياتها. وتناوبوا على تقمّص دور الجلاد وتقمّص دور الضحية.
أول فرصة أتيحت لي لمشاهدة هذا الفيلم التوثيقي الذي أُنتج سنة 2016 كانت في مدينة بيرن السويسرية، حيث دعت “أمم” جميع من شارك فيه إلى جانب معتقلين سوريين سابقين أمضوا بدورهم عقوداً من الزمان في نفس منتجع الموت هذا. وبعد يومين من النقاشات الثرية حول السجون وأدب السجون وتوثيق معاناة المعتقلين، تم عرض الفيلم في صالة سينما وسط المدينة. وكان يجلس إلى جانبي المدعي العام في المدينة. وبعد انتهاء العرض، التفتت إليه لأسأله رأيه فوجدته يسبح في دموعه متأثراً. فاخترت حينها أن ألتفت إلى سواه منعاً للإحراج، فلم أجد عيناً من دون دموع.
تصدرت الشاشة بداية الفيلم جملة يقول فيها لقمان إن اندلاع الثورة السورية “العظيمة” هو الذي دفعهم لخوض التجربة
من المؤكد أنني لست بناقد سينمائي لأخوض النقاش فنياً بالعمل، لكنني أدّعي بأنني قادر على قياس مدى وقع مثل هذه الأعمال على الرأي العام. بالمقابل، فقد حظي العمل بانتقادات سياسية سوريالية من قبل بعض السوريين والسوريات. فبتركيزه على المعتقلين اللبنانيين، وهو خيارٌ مشروعٌ خصوصاً إن عرفنا بأنه مرتبط بمشروع توثيق صوتي لتجاربهم، فقد دفع بالبعض إلى استنكار غياب المعتقلين السوريين عن المشهد، مستنتجين بأنها “مؤامرة” تهدف فيما تهدف إلى التقليل من شأن معاناة السوريين. كما أن جملة عابرة وردت على لسان أحد الممثلين / المعتقلين، أشار فيها إلى أنه تعرّض للتعذيب بسبب تشهير به من سجين سوري، حملت آخرين على تصنيف العمل كمؤشر للعنصرية اللبنانية وصولاً إلى التشكيك في أخلاقيات الفيلم. وقد نوقش هذا المقطع تحديداً حيث أشار لقمان حينها إلى رغبة انتابته ليحذف الجملة إلا أن مصداقية عمله التوثيقي تغلبت على حذره من أصحاب النظرات المشككة.
تصدرت الشاشة بداية الفيلم جملة يقول فيها لقمان إن اندلاع الثورة السورية “العظيمة” هو الذي دفعهم لخوض التجربة.
عذراً التعليقات مغلقة