(الجزء الخامس من حكاية المعلم أبو أحمد ورحلته إلى حماه)
حكيت لحضراتكم، في تدوينات سابقة، عن المغامرة الغريبة التي أقدم عليها المواطن الإدلبي “أبو أحمد”، عندما سافر من إدلب إلى حماه لكي يقبض رواتبه من مديرية التربية التابعة لحكومة الأسد.
أراد “أبو أحمد” أن يعطيني، في البداية، فكرة عن نفسه، فقال إن لديه وسواساً قوياً في مجال الإعداد لما يريد فعله في الحياة، فتراه يخطط لكل خطوة يُقْدِمُ عليها تخطيطاً صارماً، ويتحسب لكل الاحتمالات بدقة متناهية، حتى إن أولاده يمازحونه ويلقبونه “أبو الديزم”، وابنته الكبرى حميدة قالت له، ذات مرة، إنه يصلح لأن يكون وزيراً للتخطيط، ليس في سورية، بل في دولة محترمة، فحين يضع مخططاً لإنفاق الراتب الشهري، مثلاً، يفرض على جميع أفراد الأسرة التقيد بالمخطط حرفياً (مع أن راتبه قليل، وتطبيق خطته يؤدي إلى الجوع).. وهكذا حتى يتمكن من صرف آخر خمسين ليرة سورية من الراتب يوم 30 أو 31 من الشهر الجاري، (بحسب طول الشهر)، فلا تعاني الأسرة من الإفلاس إلا لساعات قليلة قبل موعد قبض الراتب الجديد..
وقال (أبو أحمد) إنه يمتلك مجموعة من العادات التي تساعد على التقشف، كان قد تعلمها من المرحومة والدته التي كان أحدُ الجيران الظرفاء قد أطلق عليها لقب “الحاجة لافوازيه”، (نسبة إلى عالم الفيزياء لافوازيه، صاحب نظرية اسمها انحفاظ الكتلة، التي تقول: في الطبيعة لا يولد شيء جديد، ولا يفنى شيء قديم).. فوالدته لا يفنى عندها شيء، بدليل أنها، بعد وفاة والده، فتحت خزانته، وأخرجت ثيابه، واستطاعت أن تحولها إلى ثياب للأولاد، وما زاد من قصاصات قماشية صنعت منها سجادة خرق، وما زاد من قصاصات القصاصات الفراطة وضعتها ضمن خرقة مستديرة وصنعت منها (كارة) للتنور.
قال أبو أحمد: ولكنني، في ذات مرة، طبقت إحدى نصائح والدتي، فوقعت في مشكلة عويصة.
قلت: عظيم. أنا أريد أن أعرف ما هي المشكلة، مع أن هذا يبعدنا عن الحكاية الأساسية، أعني السفر من إدلب إلى حماه.
قال: كانت والدتي تقول إن أحسن دواء للحروق، هو البن المطحون، ولكنني لم أكن أشتري البن بسبب ارتفاع ثمنه، وعندما يُصاب أحد أفراد أسرتي بحرق، أصحبه ونذهب مسرعين إلى بائع البن “أبو علي آغة الجملون”، وأطلب منه أن يعطيني رشة لكي أضعها فوق مكان الحرق، وكان هذا طلباً سهل التلبية، لأن كمية لا يستهان بها من البن تنزل، أثناء الطحن، حول الطاحونة، وتتجمع وكأنها غبار بني اللون.. وإذا لاحظتُ وجودَ وذمة في منطقة ما من جلدي، أضع فوقها رقاقة من لحم الخروف الأحمر (الهبرة)، فالهبرة تمتص الورم، وتقضي على الوذمة بإذن الله.. وهكذا يوفر الإنسان مصروف الذهاب إلى الطبيب والصيدلية وما شابه ذلك. وذات يوم، يا أستاذ أبو مرداس، آلمتني وذمة جلدية في بطة ساقي اليمنى. ذهبت إلى القصاب “أبو دياب ارحَيّم”، وطلبت منه أن يصنع لي رقاقة هبرة مدورة عليها.
قال لي: تكرم عينك عمي أبو أحمد.
وأعطاني الرقاقة. ألصقتها فوق الوذمة، ومشيت باتجاه المنزل، وقبل أن أصل بحوالي خمسمئة متر، وبينما أنا ماش بأمان الرحمن، إذ هاجمني الكلب قَطَّاش الذي يمتلكه جارنا أبو أيوب المعرّيوي، وبدأ يعض المكان الذي ألصقت فيه رقاقة الهبرة، وأنا أصيح بالمقلوب، فتجمع شباب الحارة، وهجموا على قطاش بالعصي والشماسي المطرية حتى غادر المكان وفي فمه قطعة من بنطلوني إضافة إلى رقاقة الهبرة.
قلت ممازحاً: من حسن الحظ أنك ألصقت رقاقة الهبرة على بطة ساقك، وليس في مكان آخر!
ضحك أبو أحمد لملاحظتي، وقال يا ليت أن المشكلة انتهت عند هذا الحد، فعندما علم أبناؤه بما حصل، استنفروا، واندفع أحمد ومجموعة من رفاقه باتجاه دار “أبو أيوب” صاحب الكلب قطاش، وراحوا يقرعون الباب بأيديهم وأرجلهم، يريدون ضربه، مع أن الذي عضني هو قطاش وليس أبو أيوب. ولكن، ومن حسن الحظ، أن أبو أيوب خاف، ولم يفتح لهم، بينما ركض ابني الصغير “جلال”، إلى مكان تجمع الناس، وهو يصيح (بعدوا من الطريق يا شباب)، وعندما وصل إليَّ سحبني من يدي إلى الشارع الرئيسي، واستأجر سيارة صفراء تعمل على الديزل، وطلب من السائق أن يأخذنا إلى جناح الإسعاف بالمشفى الوطني على جناح السرعة، لأنه يريد أن يحقنني أحدُ الممرضين بإبرة ضد الكزاز، وضد الكَلَب، وأنا اعترضت بشدة، موضحاً له أنني من زمان، أصبت بالكزاز وشفيت، يعني صار عندي مناعة، وقطاش يستحيل أن يكون مصاباً بالكَلَب، لأن صاحبه قطش أذنيه منذ أن كان صغيراً حتى لا يكلب.
قلت لأبي أحمد: قصة جميلة جداً. دعنا الآن نرجع إلى رحلتك.
***
تابع أبو أحمد سرد تفاصيل الخطة الأمنية التي أعدها قبل السفر إلى حماه، والاحتياطات الرهيبة التي اتخذها قبل الانطلاق، متحسباً من الوقوع في قبضة أحد العساكر الواقفين على حواجز النظام، أو حواجز الفصائل المسلحة التي سيطرت على إدلب وبعض ريفها في مطلع سنة 2015، أو الحاجز الذي أقامه المدعو أبو رستم بذريعة أنه يريد أن يكسب الثواب في مجال محاربة الإرهاب..
المهم، بعدما أعطاهم الكابتن (سائق الميكرو أبو خليل) توجيهاته، وأملى عليهم شروطه، وأخذ من كل راكب 25 ألف ليرة، منها أجرة الميكروباص والباقي للحواجز، انطلق الميكرو على خيرة الله.. ولكن، لم يكد يقطع سوى ثلاثة كيلومترات، ووصل إلى منطقة معمل الكونسروة غربي مدينة إدلب، حتى طلع له حاجز طَيَّار، وصاح به أحد العناصر: (قف).
المحرر: كان هذا الحاجز تابعاً للمجاهد المعروف بلقب “جولاماصا”، وهنا جرت قصة عالمية – على حد تعبير كاتبنا الراحل أديب النحوي – سنضطر إلى تأجيل سردها إلى التدوينة القادمة.
عذراً التعليقات مغلقة