كلّ يومٍ، وأنا أسمعُ الأخبارَ وأشاهدُ قصصَ السّوريين، أو أقرأها، أو أتحدّثُ مع أصدقاء أثقُ برؤيتِهم، حول ما يحصلُ وما أثارتْهُ تهريجةُ الانتخاباتِ الفاضحةِ، يحاصرني لسانُ قولِ الجميع، سواء كانوا في الوطن، أو في المهاجر، عن بلادِنا والمصيرِ القادم؛ فتتواصلُ حالةُ القلقِ في الأنفس، ويختلطُ الألمُ بالغضب، خصوصاً، أمامَ سرديّةِ تشاؤمٍ يفعل فعلهاَ اللئيمَ الإعلامُ وساساتُه؛ خلاصتُها: لم يبقَ لكم قضيّةٌ نبيلة تستحقُّ النّضال. لا قوّةَ لكم ولا أنصار. حربُ حريّتِكم كلامٌ فارغ. مهما فعلتُم لن يأتيَكم الخلاصُ الذي تريدون. اتركوا الناسَ تعيشُ وتتصالحُ مع الواقع كما هو. الدّيمقراطيّة في العالم لعبةٌ وكذبة؛ فكفّوا عن مطالبةِ نظامِ سوريا الحاكمِ بذلك؟
كأنّ الفسادَ قد زالَ وانصلحَ الواقعُ؛ فلم يعدْ هناك اكتراثٌ بكفاحٍ لحقٍ مسلوبٍ، واعتبارٌ لثورةٍ من أجل كرامة.
ماذا فعلنا وماذا سنفعلُ؟ هل كذّبنا على أنفسِنا بثورةٍ هي سرابٌ، فقاعةُ غضبٍ وانفقأتْ؟
ما يحصلُ في الواقع، لا ينقلُ الإعلامُ منه إلا نزراً، ولا ينقله بحقيقتِه، بل ينتقي ما يفيدُه ويستعملُه لمآرب سياسيّةٍ أو أغراضٍ تجاريّةٍ وحربيّة. فسرديّةُ الإعلامِ عن ثورةِ سوريا بنيتُها التبخيسُ والذّم وتعدادُ المعايبِ والإخناع. أداءٌ إعلاميّ غيرُ مهنيّ، يفتقدُ الجوهرَ الإنسانيّ والاعتبارَ الأخلاقيّ.
الذّائعو الصّيتِ المشتغلون في الإعلامِ والثّقافةِ والسّياسةِ الذين يُشارُ لهم بالبَنَانِ، الذين تمرّسوا بمزاولةِ الفتاوى السّياسيّةِ والأخلاقيّةِ في كلِّ حدثٍ ووقيعة، يَفجُرُون ويُشنِّعون على السّوريين بنظريّاتٍ متكبّرةٍ مُهينة، وأفكارٍ وأحكامٍ متعاليةٍ بهدفِ قَولَبتِهِم في إطارِ شعبٍ شقّاقٍ فاسدِ الرّأي أهوج، وثورةٍ عبثيّةٍ خرقاء، لكي يضفوا عليه طابع الرّعونة والطيش والفرقةِ وينزعوا النّبالةَ والشّرعيّةَ عنْ كلّ ما له علاقة بالقضايا الجوهريّةِ التحرّرّيةِ، وبحقوقِه الإنسانيّة ووحدتِه. ينضمّون إلى حاشيةِ الظالمين من نظامِ الأسد ومرتزقتِه ومعارضتِه المزيّفة، ويعملونَ في مصانع الاستبدادِ والاستعمارِ المتعدِّدِ الجنسيّاتِ والاحتلالاتِ. فينشأُ عن هذا اللغوِ صراعٌ إشكاليّ كبيرٌ حولَ تقرير المصير، بينَ الخضوعِ للتّطويع المذلِّ، وتعاظمِ الإرادةِ الحرّة للمقاومة.
فكيفَ ننأى بعقولِنا ووعيِنا عن لوثةِ التّثبيطِ والتّخييبِ؟
القصّةُ السوريّةُ معقّدة، وتحدياتُها كثيرة، لكنّها أمّدتْ السّوريين بفرصٍ كثيرةٍ وتجارب كاشفةٍ لليقظة من أوهامٍ كانتْ يقيناً، وبمقْدراتٍ جديدةٍ على الفعلِ والعمل خارجَ الصناديقِ المقفلة، وفتحتْ أعينَهم وعقولَهم بنظرةٍ جديدةٍ على تاريخِهم وقضايا صراعهِم الوطنيّ، وحاجتِهم البالغةِ للوحدةِ الوطنيّة.
والمشهدُ على الرّغمِ من قتامتِه، ليس قدرا نهائياً، يمكن أنْ يتغيّرَ بيقظةٍ أكبر وأوسع؛ فالفرج يأتي من الشدّة، والتاريخُ يقولُ كم منْ عسرٍ أعقبَهُ يُسر. ولقمةُ العيشِ مهمّةٌ لكنّها قيدٌ خانقٌ لروح الإنسان إن انغمستْ بذل وجهل.
السّوريون ليسوا، كما يُرادُ تكريسُه نمطيّاً لتشويهِ القضيّةِ السوريّة وإذلالِ السّوريين، كشراذم؛ مجرّد فصائل متقاتلةٍ وإثنيّاتٍ متصارعةٍ وجماعاتٍ متناحرةٍ وعشائر إرهابيّةٍ تقتات على مصيرِ مهاجرين ضالين ومنكوبين جوعى.
هناك أخطاءٌ كثيرةٌ ارتكبَها الشّعبُ السّوريُّ ومعارضتُه وممثلو ثورتِه، في جزئيّاتٍ مختلفةٍ وكثيرةٍ من المشهدِ السّوريّ، لا يمكن إنكارُها. النّظرةُ الموضوعيّةُ لواقع السّوريين في الدّاخلِ والخارجِ، قد توضّحُ الصورةَ الكامنةَ وراءَ مواقف الناسِ وأخطائهِم من خوفٍ وقهرٍ وعوزٍ واستقطابٍ إعلاميٍّ وأيدولوجيٍّ؛ وتفسّرُ أفعالَها قبلَ الحكمِ عليها. أما منْ يعملُ مرتدياً ثوبَ معارضةٍ وثورةٍ وخصومةٍ، ومنْ ينتفعُ بالحرب؛ فهؤلاء مجرمون؛ مثلُ الطغاةِ والمعتَدين.
وجودُ الخونةِ والجاهلين والمرتزقةِ أمرٌ خطيرٌ وشائن، لكنّه يَحدثُ في تاريخِ ِ شعوبِ الأرضِ كلّها، خصوصاً، حينَ تصيبُها الحروبُ والفتنُ والمؤامراتُ؛ فكيف بشعبِ سوريا وهو يئنُّ تحتَ حربٍ كبرى طويلة، وعصابةٍ متسلّطةٍ، واحتلالٍ عسكريٍّ واستعمارٍ متنفّذٍ متنوّعِ الجنسيّاتِ والأيدولوجيّات والمصالحِ، لابدّ أن يحصل اختراقٌ بدوافع نفعيّةٍ ووصوليّةٍ وغاضبة. وتبقى صامدةً، كما هو الحال، أغلبيّةٌ وطنيّة تحبُّ بلادَها وفئاتٌ كثيرةٌ متعلمةٌ ومثقفةٌ تعمل لصالح وطنها. المعركةُ غير متكافئةٍ؛ لكنّ للقضيّةِ داخلةٌ معنويّةٌ وقصّةُ حياةٍ ووجود، ستدفعُ الإنسان للنضالِ حمايةِ لنفسِه وأهلِه. والألمُ مهما اشتدَّ، لن يوهنَ شعباً مؤمناَ بحقِّهِ.
المقاومةُ هي التي تكسّرُ الخطّةَ الشّاغلةَ على تيئيسِ السّوريين وإفقادِهم الأمل، وهي التي تتصدّى لمحاولات نزع الشّرعيّةِ عن قضايا ثورتهم ومطالب تحرّرهم وحقِّهم في اختيارِ نظامِ يحكمُ بلدَهم بديمقراطيةٍ وإنسانيّةٍ وعدل.
المقاومةُ، بأشكالِها المختلفةِ هي الحلُّ؛ بكلمةٍ حرّةٍ عادلة، وتعبيرٍ عقلانيّ نبيل، وحوارٍ نافع، وعلمٍ مفيد، وتآزرٍ إنسانيٍّ سوريّ، وعملٍ سياسيٍّ سلميّ يجلبُ السلامَ الكريمَ ويحمي الحقوق، وكفاحٍ عسكريٍّ ضدّ العدوِّ غاصبِ الأرضِ والحقِّ. الغضبُ القابعُ في نفوسِ السّوريين بفعل القهر؛ لن يجلبَ الخيرَ إنْ كانَ دليلَهم، أذاهُ أكبرُ بكثيرٍ من نفعِه، يجعلُ الناسَ تتصرّفُ بعصبيّةٍ، لا تميّزُ بين الخطأ والصّواب. قد يكونُ الغضبُ دافعاً لمجابهةِ العدوانِ، لكنّه لا يُرجعُ الحقَّ المسلوبَ ولا يقتلعُ الظلمَ من أساسِه. ربّما في حالاتٍ نادرةٍ وظروفٍ استثنائيّة.
ماذا بعد الغضب؟
الفعلُ الإنسانيّ الإراديّ لا يكون بالأهواءِ وتحت الضّغوط. يكون باختيارٍ ووعيٍ. فالإرادةُ أساسُ الاختيار. وقد أكّد المفكرُ الاجتماعيّ السّياسيّ ابن باجة في كتابه “تدبير المتوحّد” على أنّ الفعلَ الأنسانيّ هو فعلٌ باختيار. ويجدُ علماءُ النّفسِ أنّ من استراتيجيّاتِ إدارةِ المشاعرِ هو تسميتُها. والغضبُ السّوريّ بحاجةٍ لفهمِ أسبابِه ومواجهته بوعيّ حتى لاينزلقَ بالناسِ إلى التهلكةِ وفقدانِ الإرادةِ الحرّة الواعية.
الثورةُ استهلكتْ السّوريين بعشر سنواتٍ من الحرب، وأحرقتْ لدى جمهورٍ كبير ثقةَ الإنسانِ بالإنسان، وأضعفتْ إيمانَه بصوابِ حقّهِ وموقفِه، وبدّدتْ الطاقات وأهدرتْ تجارب كثيرةً كانَ يمكنُ أنْ تثمرَ. لكنّ الثورةَ حدثٌ في غايةِ الأهميّةِ كحتميّةٍ تاريخيّةٍ للتّغيير. وأهميّتها تأتي بما ستنهضُ به معنويّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ومعيشيّاً، وبما ستنجزُه لصالحِ الإنسانِ وصالحِ حياتِه ومجتمعِه وبلدِه. أي بغائيّتِها الإنسانيّةِ من حريّةٍ وطمأنينةٍ وعدلٍ وثقةٍ وتآلفٍ وتراحمٍ ووحدةٍ وطنيّة. فربيعُ الحريّةِ يعطي خيرَهُ عندما يكفُّ الإنسانُ السّوريّ عن اضطهادِ ذاتِه الإنسانيّةِ الحرةِ وعن اضطهادِ الآخر.
لم يقتصرْ تأثيرُ الثورةِ، والحربِ التي تلتْها، على المعارضين أو المدرجةِ أسماؤُهم في صفوفِ الثّورة.، فقد شملتْ الجميع. والنظرةُ للثورةِ كقيمةٍ كامنةٍ في ذاتِها وغايةٍ نهائيّةٍ، يختلف عن النظرِ إليها كمحرّكٍ تاريخيٍّ وعملٍ بنائيٍّ وغايةٍ إنسانيّةٍ. ضروريٌّ أنْ يكونَ للثورةِ أنصارٌ صادقون مخلصون لمطالبِها التّحرّريّة يرفعون أعلامَها ويكتبون لها، لكنّ الأهمّ والأبقى هو أفعالُها الصالحةُ وماتغيّرُهُ في الواقعِ والناسِ نحو الأفضلِ كأفرادٍ وشعبٍ ومجتمعٍ ووطن؛ أي: مدى التماسكِ والتآزرِ في مواجهةِ الطغيانِ والظلمِ والاعتداءِ. مدى إبصارٍ الإرادةِ الإنسانيّةِ الحرّةِ والتوسّمِ خيراً في المستقبل. مدى إنماء الوعي في الدّفاعِ عن الحقوقِ. مدى استجلاءِ الحقيقةِ في المقولاتِ الوطنيّةِ والدينيّةِ والفكريّة. مدى التراحمِ والتعاطفِ لمواجهة المحنِ التي أوجدتْها الحربُ. مدى انتعاشِ المفاهيمِ الجديدةِ النافعة وامتدادها؛ فإنْ جاءتْ النتيجةُ ضعيفةً، فذلك يعني أنّ الثورةَ لم تصلْ لغايتِها، وأنّ القوى المضادةَ للثّورةِ ضاربةٌ أوتادَها بعمقٍ في الأرض. وعليه فالشّعبُ، بمختلفِ بشرِهِ، أمام خيارين: الصحوةُ أو الركود. التحرّرُ والنّهوض أو الانتحارُ التّاريخيّ.
الانفجارُ الثوريُّ قَلبَ المنظورَ السّياسيَّ للشّعبِ وجمهورِه العام. ربّما زاد في الخلاف والتّناحر والمخاوفِ؛ لكنّه فتحَ مخيّلتَه على أسئلةٍ جديدةٍ وأدوارٍ جديّة، وأرجعَ له إرادتَه الوطنيّةَ والفرصةَ التّاريخيّةَ لإنضاجِ دورِهِ السّياسيِّ على الأرضِ بالتّجربةِ الشّاقّةِ والمسؤوليّةِ الصّعبةِ التي لن تخلوَ من الأخطاءِ والفوضى والتّضحياتِ الباهظة. وانطلاقاً منْ هذهِ النقطةِ فقد بدأتْ مسيرةُ إنسانٍ جديدٍ يعملُ باختيارٍ ووعيٍ ويتخَطّى اندفاعَ الحماسِ إلىى ضبط النفسِ والتأنّي في الفعلِ والقول. المسيرةُ وقودُها الأملُ؛ فالأملُ يمنحُ القوّةَ والصّبرَ، ويؤهّلُ لصناعةِ منظورٍ تطلّعيٍّ طامحٍ إلى النّصرِ، وخطابٍ تفاوليٍّ يجابهُ إعلامَ الإحباطِ والإضعافِ والتّصغير.
عذراً التعليقات مغلقة