ليس غريبا أن يطعن أعداء الشعب السوري الحر بآمال السوريين بعد كل هذه السنين من التضحيات العظيمة، لكن الغريب أن يطعن بآمال السوريين فئة من المفترض بهم أنهم أنصارها، فيسعون فيها فسادا أكثر من سعي أعدائها وإجرامهم الظاهر البين، إن الثورات لا تهزم ولكنها تطهر نفسها شيئا فشيئا، وهذه التطهر يفهمه كثير منا على أنه أذى وسوء وشر، بينما هو الخير كل الخير.
السوريون لم يخرجوا في الثورة ليطالبوا بدساتير تنافي ثقافتهم أو هويتهم أو دينهم أو إرثهم الحضاري المجيد التليد، بل خرجوا في الثورة للحفاظ على كل ما سبق ولتأكيد حريتهم وكرامتهم الإنسانية وليبنوا دولتهم القوية المتحضرة بما يملكون من دين جامع ولغة عظمى وثقافة مشرقية محببة إلى قلوبهم، فهم ورثة إمبراطوريات وحضارات أشرفها وآخرها الإسلام، وهذه الخلطة لا تعجب كثيرين ممن نحوا طريق التعرض لهوية وثقافة ودين السوريين!
الثورة السورية لم ولن تكون قوة معارضة -بالمفهوم السياسي لقوى المعارضة- حتى نلبسها لباس التنوع والتمايز والأفكار والراديكالية والعلمانية… بل هي الشعب ومطالب وحاجات الشعب الاقتصادية والسياسية العادلة والإصلاح الجاد الذي لا علاقة له بدين أو لغة أو هوية، شعب نبذ حكومته وسلطته ورفضها وواجهها، ليس ليستبدل السلطة الأقلوية الفاسدة الإرهابية بسلطة مماثلة تعادي دين ولغة وهوية السوريين، هذا الإرهاب العلماني المحسوب على الثورة يجب أن يتوقف قبل أن تخسر النخبة العلمانية ثقة الناس ومحبتهم ومناصرتهم، هذا الدعوات الشاذة غير المعقولة علما ومنهجا ومنطقا يجب أن تتوقف قبل فوات الأوان، لأننا ابتلينا بمصيبة عظيمة وهي أن السوريين أصبحوا مضطرين إلى الابتعاد عن الملف الإنساني والتهجير والتغيير الديمغرافي والمعتقلين ونزيف دمائهم ومطالبهم وضرورات بقائهم، من أجل أن يتصدوا للدعوات العلمانية الشرسة المتجددة والتي تغدق عليها الأموال مقابل فعل هذا التشتيت المرعب الذي قسم الناس بعضهم على بعض، أو غير دفة الصراع ووجهته.
حديثنا اليوم كله عن الدين، والدين والدولة، والدستور، وفصل الدين عن السياسة، والعلمنة، وفي الحقيقة لا أعلم أين يوجد الدين في دولنا؟! ولا يمكن لسوري واحد أن يثبت أن النظام الحاكم نظام ديني، ولا أعرف كيف لعاقل أن يسخر كل جهده للحديث عن فصل شيء عن شيء غير موجود؟! هل فينا دين لنفصله عن الدولة؟! أو بالأحرى هل عندنا دولة بالأساس؟!
نحن بلد محتل من قوى أجنبية إرهابية، وشعب أكثر من ثلثيه نازحون ومهجرون، ولدينا أجيال من الأميين، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرا، وسائر الشعب عبارة عن كتل بشرية من الجوعى والمحرومين، فأين الثرى من الثريا؟! م
من سيخرج هذه القوى الأجنبية والميليشيات الإرهابية من سوريا؟! من سيقودنا نحو بر الأمان ويلم شتات هذا المجتمع المنهك من براميل وراجمات وكيماوي الإرهاب المتنوع عالميا؟!
بأي حق نتهجم (نحن) على دين وهوية المقصوف والمحروم والمعتقل والمهجر الذي يضحي من أجلنا جميعا؟!
لم نلقي كل إخفاقنا وحمولتنا على الدين؟! الذي لولاه ما خرج سوري وقال أنا ثائر، إننا لا نملك برلمانا ولا مؤسسات ولا دولة ليطعن بعضنا ببعض، وطعوننا ليست إلا جلد الضحية وتعميق جراحها وتنكرا لها واعتداء على كرامتها، ولا يمكن أن تكون هذه الطعون ساحة جدل فكري صحي في واقع نعيشه كواقعنا اليوم وكما يقول المثل العامي: (الطبل في حرستا والزمر في دوما)، إننا ننقلب على أنفسنا أكثر فأكثر كلما طالت قضيتنا وازدادت تعقيدا وسوءا لم نكن مؤهلين لمعالجته ولا نمتلك الخبرة السياسية الكافية لمعالجة إشكالياتنا البسيطة الناشئة، إن هذه الطعون موروث من ثقافة الانعزال والقهر والحرمان من الحقوق والحريات السياسية التي عاشها السوريون طوال خمسين عاما، إنها تكرس التكلس الأخلاقي وغياب العدالة بمعناها العميق، وتجعل منا مادة كوميدية في أوساط السياسة والاجتماع، إذ لا شغل يشغل مراكز دراساتنا ومنصاتنا إلا الدين وفصل الدين عن الدولة وضوابط الهوية، وكأن الأمر مزاجي ونحن في بحبوحة من أمرنا واختياراتنا.
في الختام، دعونا نكون أكثر نفاقا، ونقول أن حكما عسكريا انقلابيا سيطر على سوريا وأوصلها إلى هذه الهوة من المأساة، وأنه ليس حكما طائفيا أقلويا غبيا متطرفا… والسؤال: أين باحثو ومثقفو ومتكلمو أوساطنا من الحديث والتنظير والتكلم بضرورة فصل العسكر عن السياسة؟! أليس هذا جوهر الدول الديمقراطية المدنية؟!
هذا الفهم المأساوي الذي يعيشه المثقفون في بلادنا عانته المملكة المتحدة في بدايات القرن العشرين وكان البرلماني والجغرافي العظيم هالفورد ماكيندر صاحب نظرية قلب الأرض الشهيرة، يشعر بعجز الديمقراطية والانفتاح الغبي في عقول الطبقة الحاكمة من وجوه المؤسسات، ويرى أنهم غير مؤهلين سياسيا وجغرافيا لفهم طبيعة الصراعات في العالم وأن لبرلة الأفكار والثقافات خطر على بريطانيا العظمى ونفوذها وطموحاتها العالمية، وكان يدعو إلى تقييد حق الانتخاب للطبقة العامية من الناس والنساء لأنهم لا يدرون حجمهم وحركة العالم السياسية وبالتالي يشكلون خطرا على الدولة في عمقها القومي، كما دعا إلى إعادة تنشئة وتثقيف البرلمانيين والكتاب والسياسيين بالجغرافيا السياسية، لأنهم جهلة بمقومات الجيوبولتيك، وبالتالي لن يقدروا على إنجاز نهضة ما، وهذا ما حصل بالفعل في بريطانيا، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تتبع أثرهم في هذه، فأصبح لزاما علينا أن نثقف هذه الطبقات الواهمة من المثقفين بدوافع الجغرافيا السياسية السورية، وجيوستراتيجية سوريا، لنخرج من عمق الجدل والزجاجة الفارغة إلى رحبة التضامن الوطني ونقاشات الأمن القومي وموارد الاقتصاد، فجدليات الدين والدولة في مجتمعاتنا لا تقدم ولا تؤخر في قدرتنا على تجاوز مرحلتنا، حروب الثروات والمصالح والقواعد المتقدمة ليست حروبا وأزمات دينية، وهذا جوهر جميع صراعات العالم في هذا العصر، ثقافة الانبطاح والانفتاح وموروث التسامح في السياسة لا ينصر قضية ولا يحقق خلاصا، كونوا على قدر المسؤولية، قبل أن نفقد تأثيرنا كليا على كل شيء يخص شعبنا وثورته وأحلامنا وصحتها.
عذراً التعليقات مغلقة