لا علاقة لهذا العنوان بالهجاء، على الأقل ذلك الهجاء الذي يستخدم الحيوانات شتيمةً للحط من قيمة الأشخاص. كلمة “التجحيش” تُستخدم في سوريا على نطاق واسع لوصف ما يُسمى أيضاً “زواج التحليل”، أي الزواج المتوجب على المرأة من رجل آخر قبل أن تجوز لها شرعاً العودة إلى زوجها السابق الذي طلقها ثلاث مرات. وكما هو معلوم من الدارج أن تتم هذه العملية احتيالاً على الشرع الإسلامي، فيكون هناك اتفاق مسبق بين الزوج القديم والزوج المؤقت “يُسمى بالعامية نفسها المُجحِّش”، ليقوم الأخير بدوره الصوري لمدة قصيرة جداً وقد يكون مُستأجراً لهذا الغرض، أو محل ثقة لأنه أدى هذا الدور سابقاً بأمانة. وإذا كنا لا نعلم سبب شيوع هذه التسمية فمن المؤكد أنها ليست على منوال استخدام المجاز نفسه دلالة على الغباء، فالمجحِّش “المحلِّل” في حالتنا شخص يقوم بدوره عن دراية بصرف النظر عن دوافعه.
غاية تلك العملية كما هو واضح إضفاء الشرعية على ما أصبح باطلاً، والشرعية هنا تتطلب حكماً وجود ذلك الطرف الثالث، وهو وجود ضروري بقدر ما هو صوري. في حالتنا، لدينا طرف فقد الشرعية “سلطة الأسد”، وأطراف راغبة في إعادة تأهيله “أو حتى إعادة تدويره” هي جهات دولية وإقليمية، إلا أن العملية تتطلب مشاركة المعارضة السورية لتكتسب الشرعية، والشرعية هنا هي حفظ ماء وجه تلك الجهات التي يريد بعضها على الأقل استعادة الوضع السابق باعتبار جرائم الأسد قد طُويت باتفاق أهل البيت “من معارضة ونظام”.
الوصول إلى تلك الخاتمة لن يكون في المدى القريب، ودور المعارضة “في عملية التجحيش” قد بدأ منذ سنوات، وهو مستمر في سياق متدرج من إضفاء الشرعية على التنازل تلو التنازل. اليوم مثلاً تعلم المعارضة الممثلة في اللجنة الدستورية أن وفد الأسد يماطل في المفاوضات لتقطيع الوقت حتى إجراء الانتخابات الرئاسية، وهكذا سيحظى بشار الأسد بسبع سنوات جديدة سيصرّ هو وداعموه على أنها خارج التفاوض. لقد أسرّت قيادات دولية من قبل لبعض المعارضين بأن التغيير لن يحدث قبل أن ينهي بشار ولايته الحالية، وبدا ذلك مستهجناً قبل حوالى سبع سنوات، إلا أنه الآن يعبر بقدر أقل من الاستهجان، وهناك في وفد المعارضة من يعلن فهم اللعبة إنما على أرضية التسليم بها وعدم وجود بديل عنها طالما أنها تتم تحت أبصار المجتمع الدولي.
كان قرار مجلس الأمن2254، الصادر قبل خمس سنوات، قد دعا في بنده الثاني إلى الدخول على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن عملية الانتقال السياسي. وفي بنده الرابع حدد الستة أشهر كفترة مستهدفة لإنجاز المفاوضات، وبدء الحكم الانتقالي الذي يضع جدولاً زمنياً لصياغة دستور جديد، تُجرى على أساسه انتخابات حرة ونزيهة خلال سنة ونصف. ترتيب الأولويات الزمنية كان واضحاً في قرار مجلس الأمن، إلا أن المعارضة “ضمن دورها الآنف الذكر” منحت الشرعية للانقضاض على قرار مجلس الأمن، أولاً من خلال اختراع ما يُسمى مفاوضات السلال الأربع المتزامنة، ثم بتوقف المسارات الأربعة واستئناف المسار الدستوري الذي كان يُفترض الشروع به بعد العبور إلى الحكم الانتقالي. بموافقة المعارضة، اختُزل قرار مجلس الأمن إلى مسار اللجنة الدستورية المتعثر، وضمن سقف زمني مفتوح. أو بعبارة أدق، تم الانقضاض على صُلب القرار ذاته لا لأن الأسد فحسب يرفض تنفيذه، وإنما لأن المعارضة أيضاً قبلت التنصل من مندرجاته وترتيبها. أيّ حديث اليوم عن الاستناد إلى القرار المذكور محض لغو، تستخدمه المعارضة إعلامياً لتستر سلسلة تنازلاتها.
صار في وسع وفد الأسد إلى اجتماعات اللجنة الدستورية المجيء، بعد تمنع ودلال، فقط ليستعرض قدرته على إضاعة الوقت في مناقشة كل ما ليس له صلة بالدستور. في الاجتماعات الأخيرة للجنة أهدر الوفد الوقت بالحديث عن عودة اللاجئين، وهذه ليست مهارة تُحسب لوفد الشبيحة بقدر ما هو استغلال للمتاح بيسر، فنحن إزاء مبعوث دولي يتصرف كموظف يهمه القول أنه يفعل شيئاً ما، أي شيء، وإزاء عدم اكتراث أممي بموضوع اللجنة برمته إلا على شاكلة موظفها نفسه. المُحرج فيما سبق كله أن وفد الأسد يتعمد إبداء المزيد من الابتذال، أو يظهر على سجيته بلا تصنّع، ما يُفرغ التمثيلية من أدنى درجات الإقناع، لذا بات همّ الممثل الدولي ومَن خلفه بقاء التنكيل الذي يمارسه ذلك الوفد بعيداً عن الإعلام، ربما أيضاً رأفةً بوفد المعارضة وإعفاءً له من مواصلة المقارنة بين جديته وعدم جدية الوفد المقابل.
لكن ذريعة “إحراج النظام أمام المجتمع الدولي”، وشقيقتها التي تنص على حسن نوايا المعارضة وامتثالها للتوجهات الدولية، لن تخرجا من التداول ما بقيت المعارضة وفية لنهجها. ذريعة “إحراج النظام” أضحت كبديهية من بديهيات عمل المعارضة، ولا نعلم أي ذكاء “أو تذاكٍ على السوريين” يعتقد أصحابه حقاً أن من أباد قرابة مليون سوري وهجّر ثلث السوريين واستخدم أسلحة الإبادة الجماعية سيشعر بالإحراج أمام المجتمع الدولي الذي رأى كل جرائمه السابقة وأبقى عليه، بل ها هو يحابيه وهو في أدنى درجات الابتذال السياسي.
ثمة ذريعة أخرى، تُطرح علناً أو ضمناً، لتبرير أداء المعارضة يمكن اختصارها بالسؤال: ما الذي تقدر عليه هذه المعارضة، أو أية معارضة قد تحل مكانها، أمام إرادات قوى دولية وإقليمية كبرى تتحكم بالقضية السورية؟ لا يندر أن يُبنى السؤال على واقع خروج القضية السورية من أيدي السوريين جميعاً، ليكون من الحصافة تواجد المعارضة على أي نحو بدل تغيبها.
من نافل القول أن العلاقة بالخارج سمة السياسة المعاصرة بالمفهوم الديموقراطي، وهناك في بعض التجارب معارضات لديها “حكومة ظل” بما فيها وزارة الخارجية. لعل هذا يعفي المعارضة السورية من اتهامها بعلاقتها بالخارج، من دون نسيان جانب جوهري يتعلق بوجودها كمطلب خارجي في المقام الأول، وعدم امتلاكها شرعية تمثيلية يمكن قياسها، وعدم امتلاكها شرعية ثورية لابتعادها عن أهداف الثورة. قوة المعارضة تكمن تحديداً في أنها مطلب خارجي، وتحديداً من أجل القيام بدور “التجحيش-التحليل”، وقد كانت قادرة في العديد من المحطات على الانسحاب من العملية كلها أو التهديد بالانسحاب من دون أن تخسر ما خسرته وهي تثبت حسن سلوكها. حتى إذا افتقرت المعارضة إلى الخبرة السياسية، ثمة في إرث “التجحيش” الكثير من الروايات عن ذلك “المحلل” الذي خرج عن الدور المرسوم له محققاً مكاسب إضافية باستغلال حاجة بقية الأطراف إليه.
عذراً التعليقات مغلقة