كان يا ما كان في سالف الأزمان رجل لا يتقن السباحة أراد أن يعبر بِرْكةً، فأشار على نفسه أن ينفخ قربة ماء ويعوم متكئاً عليها إلى الضفة الثانية، وبعد أن وافق على ما أشار به على نفسه نفخ القربة ثم ربط فتحتها لكنه لم يحكم الربط رغم نصح الناس له بضرورة إحكامه، وما أن وصل منتصف البركة حتى بدأت القربة تنكمش ويخرج الهواء منها، فراح يغرق شيئاً فشيئاً ويصيح طالباً النجدة التي لم يلق رداً عليها سوى قول ناصحيه : “يَداكَ أَوْكَتا وفوكَ نَفَخَ” .
ماكرون وعلى قِرْبَةٍ واحدة أراد أن يعبر أكثر من مستنقع واحد، لكنْ علاوة على أن وِكاءَ قربته كان واهياً كانت قربته نفسها مليئة بالثقوب، وفي مغامرة أقرب إلى الانتحار السياسي لِغِرٍّ ظن أنه سيدخل نادي القادة الكبار انخرط ماكرون بأكثر من ملف ساخن دفعة واحدة، فحرقت المغامرة أصابعه .
في الملف الليبي راح ماكرون يدعم المنقلِب “حفتر” الذي أخفق أخيراً في دخول طرابلس ففقد ثقة داعميه وتراجعت حظوظه في البقاء على طاولة الحل لصالح “فتحي باشاغا” الذي تحضره أنقرة الخصم المباشر لماكرون ليكون رجل المرحلة القادمة وربما مرحلة الحل النهائي للصراع على السلطة في ليبيا، فخسر ماكرون المعركة لصالح الرئيس أردوغان .
وفي ملف الصراع على مياه المتوسط دخل ماكرون على خط النزاع التركي اليوناني داعماً الأخير بكل قواه، إلى أن سمع كلاماً قاسياً من الرئيس التركي “أردوغان” : “لا تلعب مع الشعب التركي، لا تلعب مع تركيا” لا بل وصفه أردوغان بـ “المفتقر للاطلاع التاريخي” إلى أن هدده بشكل مباشر “السيد ماكرون … ستواجه مشاكل أخرى معي”، لينتهي الأمر إلى وصول كلمة السر الأميركية التي دفعت طرفي النزاع إلى القبول بالتفاوض الثنائي لحل الأزمة بعيداً عن دور مؤثر لماكرون كما كان يحلم، كلمة السر التي تلاقت مع حنكة تركيا في إدارة الأزمة و صلابتها في الحفاظ على حقوقها، فخسر ماكرون المعركة لصالح الرئيس أردوغان أيضاً .
نصل إلى الخيبة الكبرى، خيبة المبادرة العتيدة لتشكيل حكومة إنقاذ لبنانية، حيث مستنقع لا تنفع معه لا قربة ولا بارجة ولا غواصة، مستنقع غرقت فيه كل سفن الحل السياسي على مدى عشرات السنين، المستنقع الذي ظن ماكرون أن له اليد الطولى فيه، غافلاً “في أحسن تقدير” أن متغيرات تراكمت على مدى مائة عام عَكَّرَتْ صفو ذلك المستنقع وأن قوى إقليمية ودولية أخرى باتت متحكمة بلبنان وبخطوات أوسع وأكثر ثباتاً على أرضه من تلك التي ظن ماكرون أن بإمكانه أن يخطوها، كان ماكرون وعلى طريقة زعماء لبنان التقليديين يريد أن يُدَلِّسَ حكومة بأي شكل وكيفما اتفق فقط ليسجل أنه فعل شيئاً مهما بلغت رداءته، لكن “مصطفى أديب” – الذي لم يكترث كثيراً باتصال ماكرون به وهو في طريقه إلى قصر بْعَبْدَة – وكما قال اللبنانيون أعاد لموقع الحكومة هيبته حين رفض حكومة الأمر الواقع التي كاد يفرضها ماكرون وحزب الله وخازن جهنم، فلا قهوة فيروز نفعت ولا الحضن الرومي أفاد “والمْعَلَّقْ بَعْدُه مْعَلَّقْ”، “كأنك يا بو زيد ما غزيت”، لا بل كان لمبادرة ماكرون “العتيدة” أثر سيء تجلى في توقف المظاهرات التي أَجَّلَتْ نفسها أملاً بحل قد يأتي مع “الروزانا” ولسان حال الشعب اللبناني يقول : الله يسامحك يا ماكرون “جيت لتكحلها عميتها”، ولو أن الراحلة سلوى قطريب “بنت الجبل” مازالت على قيد الحياة ما كانت عانقت ماكرون لكنها كانت ستقول له :
جِبْنا الأقْرَعْ لَيْشَجِّعْنا ..
كَشَّفْ عَ القَرْعة وفَزَّعْنا
مَطْرَحْ ما كِنَّا رَجَّعْنا ..
وإِنْتا الأَقْرَعْ بِالْخَبْرِيِّة … يا أستاذ الأبجدية
سيقول التاريخ يوماً إن ماكرون عاد يوماً من معاركه في شرق المتوسط بخُفَّي حنين دون أن يستطيع تحميل انكساراته على أحد لأن يَدَيْهِ أَوْكَتاتا وفاهُ نَفَخَ .
تماماً، هذا هو الوصف الدقيق للمقلب الذي أفاقت عليه فرنسا، وكانت متأخرة كالعادة