* عزمي بشارة
قبل الخوض في موضوع المقاطعة، من المفيد التذكير بما أوردناه في الجزأين السابقين من هذا المقال، وهو أن مقاطعة البضائع الإسرائيليّة ورفض الاستثمار في إسرائيل، أو التعامل مع الشركات التي تستثمر فيها، ومقاطعة إسرائيل أكاديميا، مهمة عربياً ودولياً. وهي غير قائمة في حدود 1948 لا كممارسة ولا كإمكانية؛ وهي في الضفة الغربية قائمة بشكل جزئي، فعلى الرغم من عدم إمكانية فك الارتباط مع الاحتلال إلا بإزالة الاحتلال، وذلك بسبب مرور العمليّة الاقتصاديّة كلها برمتها عبر إسرائيل، تسهم المقاطعة (في حالة توفر بدائل فلسطينية) على الأقل في بناء اقتصاد وطني فلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967؛ كما أن المقاطعة الأكاديمية ممكنة بالتأكيد. وقد طبقتها معظم الجامعات الفلسطينية بنجاح.
رفض تطبيع العلاقات مع إسرائيل مطروح على الأجندة العربية، وهو مفهوم أوسع من المقاطعة، ويشمل جوانب إضافية. من الواضح أنّ من يرفض التطبيع عربيًّا يقاطع المؤسسات الإسرائيلية أيضًا. ولكن، تبرز حاجة لتنظيم موضوع المقاطعة شعبياً للضغط على المستوى الرسمي، بعد أن تخلّت عنه غالبيّة الدول العربيّة، في ما يتعلق بالشركات التي تستثمر في إسرائيل. والمقاطعة تعني التنبه إلى تفاصيل كثيرة غير معروفة للجمهور الواسع. وهذا التنظيم غير قائم حاليًّا على المستوى الشعبي، وأقصد ليس فقط مقاطعة البضائع الإسرائيليّة، بل مقاطعة الشركات والمؤسّسات التي تدعم إسرائيل وتستثمر فيها.
لكن استراتيجية المقاطعة تكتسب أهميّة كبرى على الساحة الدوليّة، في دول تحتفظ بعلاقات طبيعية مع إسرائيل. المقاطعة، في هذه الحالة، أسلوب نضال على الساحة الدولية؛ فهي الجواب الحالي على كيفية ترجمة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني إلى خطوات عمليّة. إن أنجع طريقة تتجاوز الاحتجاجات الموسميّة هي المقاطعة، وهي تحتاج إلى تنظيم دقيق وشامل، بحيث تتجاوز هوامش المجتمعات نحو قطاعات اجتماعية واسعة ومؤثرة على صنع القرار.
وتشمل استراتيجية المقاطعة الخطوات الفردية الطوعية، التي لا يمكن لأية حكومة في العالم قمعها أو ضبطها، كما تشمل الدعوات الصريحة المنظمة للمقاطعة، ومواقف المؤسسات الأهلية والاتحادات الأكاديمية والنقابية في التعامل مع مثيلاتها الإسرائيلية، وحجب استثماراتها عن إسرائيل.
وتختلف استراتيجية حركة المقاطعة من بلد إلى آخر تبعاً لحالة رأيه العام، وطبيعة العلاقات مع إسرائيل. ولا شك في أن هذا يعني قيادة حركة المقاطعة في كل بلدٍ بموجب ظروفه على أساس مبادئ عامة مشتركة. وقد أنجزت حملة المقاطعة “بي دي إس” الكثير في هذا المجال، لكن الطريق ما زال طويلا.
لقد اتُّبِعَت استراتيجيّة مقاطعة ضد نظام جنوب أفريقيا العنصريّة، وتصاعدت المقاطعة الدولية في السنوات الأخيرة قبل سقوط ذلك النظام، وأصبح أثرها حاسماً عندما انضمّت إليها الدول رسميًّا، كما لم تعد مقتصرةً على دول القارة الأفريقية أو دول عدم الانحياز، بل أصبحت تشمل دولاً غربية لا يمكن الحفاظ على اقتصاد جنوب أفريقيا وجيشها من دونها. وجرى خوض معركة حقيقيةٍ ضد سياسة رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، في هذا المجال، ونشطت حركة “أنتي أبارتهايد” في بريطانيا وأوروبا الغربية والولايات المتحدة. ولكن لم يكن هذا ممكناً بدون مقاطعة أفريقية أولاً، ونضال عالمي غير مركزي ومتعدّد الأذرع شبيه بالحركات المعادية للاستعمار والعنصرية. كما كانت قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي تعتبر المقاطعة جزءًا أساسياً من استراتجيتها إلى جانب الكفاح المسلح والنضال السياسي.
نحن لا نرى ذلك في حالة فلسطين، حيث تقيم قيادة منظمة التحرير علاقاتٍ سياسية وعلاقات تنسيق أمني بواسطة السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعارض مقاطعة إسرائيل رسمياً وعلنياً، وتدعو العرب لزيارة القدس، وتبارك الخطوات التطبيعية العربية؛ كما أن الدول العربية المحيطة بإسرائيل إما عقدت اتفاقيات سلام معها، أو اعتبرت السلام خيارها الاستراتيجي.
وكل دولة أوروبية محرجة من صمتها على الاحتلال والجرائم الإسرائيلية تقدم مبادرة سلام أو حوار لجمع الإسرائيليين والفلسطينيين. ونجح البرلمان الأوروبي بفرض مقاطعةٍ خجولةٍ لمنتجات المستوطنات. وفي المقابل، تجري محاولاتٌ لتجريم مقاطعة إسرائيل، وثمّة حملة في الولايات المتحدة لتجريمها فعلا. أمّا في روسيا والصين والشرق الأقصى وغيرها، فحتى مقاطعة منتجات المستوطنات غير قائمة؛ بل ونشهد توثيقاً للعلاقات الإسرائيليّة مع دولٍ كانت تعتبر صديقةً للشعب الفلسطيني، مثل روسيا والهند التي أصبحت تعتبر حليفةً لإسرائيل، وتوسيع العلاقات في الصين والشرق الأقصى عمومًا والقارّة الأفريقيّة.
لسنا أمام حالة مقاطعة دولية، فإسرائيل تطور علاقاتها الاقتصادية والأكاديمية والثقافية، وقد شهدت علاقاتها الدبلوماسية طفرةً منذ اتفاقيات السلام العربية واتفاق أوسلو، كما شهد اقتصادها تطورا نوعيا في العقد الأخير.
ما هي أهمية حركة المقاطعة إذا؟ إنها مهمة كحالة نضالية على مستوى الرأي العام، وذلك بالضبط بسبب الأوضاع الموصوفة أعلاه. وهي تحقق إنجازاتٍ على مستوى بعض الروابط الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات. فحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني تفتقد الأدوات بوجود قيادة فلسطينيةٍ لا تريد تضامناً، وتراهن على إقناع إسرائيل “بالعقل والمنطق”، وكسب الولايات المتحدة إلى جانبها لأنها ملتزمة بالعملية السياسية. حركة التضامن العالمية مع فلسطين تريد أن تفعل شيئاً مفيداً للفلسطينيين، ومضراً لسياسات دولة الاحتلال. والمقاطعة هي استراتيجية نضالية، تلحق ضرراً تدريجيا بالمحتل، هذا عدا عن أنها تضعه في خانة الدولة الكريهة المنبوذة، وفي حالة دفاع وتبرير للذات، ولو على مستوى قطاعاتٍ من الرأي العام.
كما يمكن أن تحقق حركة المقاطعة، إذا وسعت صفوفها في الخارج، تأثيراً واسعاً، قد ينعكس بشكل إيجابي على الساحة الفلسطينية.
ليس لدى الفلسطينيين ما يقولونه لحركة المقاطعة العالمية على مستوى ظروف الدول، التي تعمل فيها في الخارج. ولكن، يمكن أن يقدّم الفلسطيني نموذجاً في النضال ضد التنسيق الأمني. فلا يعقل أن لا يتخذ موقفاً من التنسيق مع الأداة الرئيسية لقمع الشعب الفلسطيني، ألا وهي أمن الاحتلال ذاته. هذه أولى مهام المقاطعة الفلسطينية في الداخل، تليها مقاطعة البضائع الإسرائيلية، مع علمنا بأن البضائع الفلسطينية تشمل مكونات إسرائيلية كثيرة. ولكن الأمر مهم ثقافياً واقتصادياً.
تبقى المقاطعة الشعبيّة كحركة مهمّة في تأثيرها السياسي والاقتصادي والمعنوي بشكلٍ رئيسي، فإسرائيل لا تكتفي برفض المقارنة مع جنوب أفريقيا، وإنما تستفيد من وضعٍ خاص يمنحها امتيازات دوليّة، وإن أية إثارة لمقارنتها مع جنوب أفريقيا أو للتفكير بإقصائها يُزعجها جدًا. وهذا يقودها، ومعها حلفاؤها في الحكومات الغربية، إلى ردود فعلٍ حادّة، قد تتبعها خطوات ضد مقاطعة إسرائيل، مما يحتّم الاستعداد لذلك. ومن أهم الخطوات المطلوبة في مواجهة مثل هذه الحملة صياغة الحق الفلسطيني صياغةً ديمقراطيةً في مواجهة احتلال استيطاني عنصري.
* نقلاً عن: “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة