تتباين تعريفات الثورة وتتعدد بحسب تعدد المناهج الفكرية وأيضا بحسب الحقل الذي ندرس الظاهرة من خلاله فتعريف الثورة في العلوم الاجتماعية يختلف عنه في العلوم السياسية أو علم القانون وسواه، ما يهمنا في محاولة مقاربة هذا المفهوم هو أنها حركة اندفاع مجتمعي تقوم بها قطاعات من المجتمع بهدف إحداث تغيير عميق وجذري لمجمل البنى السياسية والإدارية والاقتصادية في المجتمع، وهذا التغيير لا يشترط أن يسير بشكل خطي إلى الأمام أو لا يهدف بحد ذاته إلى التغيير الإيجابي بل قد يكون تغييرا نكوصيا كما حدث في الثورة الإيرانية مثلا، ميزة الثورة السورية أنها انطلقت من دون تيار سياسي أو حقوقي يؤطر أهدافها وهي بهذا المعنى كانت ثورة شعب عانى من صنوف الاضطهاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وهي لذلك ليست ثورة أيديولوجية تقدم أجوبة مغلقة ومصمتة للمآلات التي تريدها، وهي نتيجة هذه الميزة ثورة عميقة وأصيلة عصفت بكل شيء تقريبا ووضعت أسئلتها الكبرى ضمن سياق التداول المجتمعي لأول مرة في تاريخ الاجتماع السياسي للسوريين.
ظاهرة العنف التي ترافق الثورات العميقة عادة ليست من نتاجها أو من وسائلها هي ظاهرة محايثة للثورة ومرتبطة بها من زاوية واحدة فقط وهو انفراط الاحتكار السلطوي لوسائل القهر والجبر الذي يعطي السلطة مفهومها الحقيقي كحاكمية قادرة على فرض إرادتها وإنفاذ قوانينها وتغيير سلوك الأفراد في المجتمع، فإذا امتدت ظاهرة العنف وتحولت لإطار منظم أيا كان هدفها تصبح تمردا عسكريا وبالمناسبة كلمة تمرد ليست تقييما سلبيا بل هو مجرد وصف دقيق لجوهر حمل السلاح باعتباره تمردا على السلطة التي كانت تحتكره في السابق، ومهما امتد هذا التمرد زمانيا أو مكانيا يبقى ظاهرة محايثة للثورة وليس من ضمن حركتها العامة الناظمة لها ، لأن الثورة تبقى تعبيرا عن حركة الاندفاع المجتمعي وليس تعبيرا عن حركة المتمردين، للأسف دعاة الواقعية وبأن الظروف العسكرية وانهيار الفصائل تدعونا لتليين مواقفنا هم من هذا المنطلق يثبتون عدم إيمانهم بالثورة أصلا، وكذلك أولئك الذين يقولون بأن الدول كبيرها وصغيرها يريد بقاء بشار وهم يثبتون بكلامهم هذا مدى احتقارهم للشعب السوري وازدرائهم له وعدم إيمانهم بإرادته وبقدرته على بناء مستقبله وبذلك يضعون أنفسهم في نفس موقع السلطة التي احتقرت السوريين وأنكرت عليهم وجود إرادة مستقلة لهم فثاروا عليها.. لو أجمعت الدنيا كلها على بقاء بشار يوما واحدا فهذا لا يعني شيئا لأن الثورة هي ما يريد السوريون وليس ما تريد أمريكا أو غيرها، الواقعية هي احترام إرادة السوريين والعمل على إظهارها بشكل منظم وليس الانصياع لما تريده الدول.
وكلما سقطت منطقة بيد النظام تخرج لنا الأصوات التي تنادي بضرورة الإقرار بالهزيمة وبضرورة البحث عن حلول واقعية، بل إن البعض ممن يدعي قيادة المعارضة لا يخجل من القول أن ما يحدث في سورية لم يعد شأنا سوريا وأن مصير سورية وطنا ودولة وشعبا ونظام حكم بات بيد الدول الإقليمية والتفاهمات الدولية، إن هذا القول بحد ذاته ينفي شرعية الثورة من أساسها وينفي عن هؤلاء صفة المعارضين أصلا، فإذا كان كلامهم صحيحا فهم يقرون بأن الشعب السوري لا قيمة له وأن ما يحدث هو مجرد مشروع إقليمي ودولي وبهذا يلتقون أيضا مع نظام المجرم بشار الأسد في محاولته نفي الوجود السياسي والقانوني للشعب السوري قبل الثورة وبعد ذلك نفي الوجود المادي للشعب السوري عبر تهجيره وقتله وتجويعه لخلق شعبه الخاص أو المتجانس كما يسميه، ولا عبرة لحجم سيطرة النظام على الأرض لتبرير هذا الخطاب الانهزامي عند أشخاص مهزومين أصلا، فالثورة أنجزت ما عليها منذ عام 2012 وهي أسقطت نظام بشار الأسد واقعيا وسياسيا وقانونيا في ذلك العام وكل ما نراه لاحقا هو الفوضى الطبيعية التي تعقب الثورات الأصيلة والجذرية في أي مجتمع، فما رأيناه منذ بداية عام 2013 كان صراعا مسلحا على السلطة بين قوى عسكرية، وهذا الصراع على السلطة هو في حد ذاته دليل أن السلطة باتت شاغرة وغير موجودة، ومن المؤكد أن فكرة اقتلاع رمز السلطة من القصر الجمهوري ومن مؤسسات الأمم المتحدة وخلاف ذلك هي مسألة ثانوية في قضية شرعية السلطة ووجودها، فلا ننسى أن حركة طالبان عندما سيطرت على كابول اعترفت فيها الأمم المتحدة وبقيت تمثل دولة أفغانستان حتى الغزو الأمريكي لهذه الدولة وخسارة طالبان للعاصمة كابول، ولذلك يجب النظر لسلطة بشار الأسد من هذا المنظار ودعكم ممن يحاول الظهور بمظهر العالم بالأمور والذي يفتي في كل القضايا من السياسة إلى العسكرة إلى القانون الدولي والدستوري والاقتصاد ومزاج الشعوب ….الخ هذه الحزمة من الفتاوى التي يرددها البعض ممن يطلقون على أنفسهم لقب المعارضة.
لقد راقبت خلال الأيام القليلة الماضية ردود فعل المعارضين على خسارة الأراضي أمام ميليشيا بشار الأسد المدعومة من جيشي الاحتلال الروسي والإيراني، وحقيقة هالني ما كنت أسمع وأقرأ من كلام ظاهره التفجع والعويل على هزيمة الثورة كما يدعون لكن باطنه الرغبة العميقة في تثبيت واقع الحال.
لقد استردت ميليشيا بشار الأسد وجيشي الاحتلال الروسي والإيراني ما مساحته حوالي 55٪ من مساحة سورية لكن هذه المناطق التي استردها ثلاثي الإجرام الـأسدي الروسي الإيراني باتت أماكن محطمة ومدمرة بالكامل وخالية من سكانها، وهذا بالضبط يثبت أن الذي خسر هذه المناطق هي الفصائل العسكرية وأن السيطرة كانت فقط على الأرض وليس على السكان الذين فضلوا النزوح في البراري على رؤية سلطة بشار الأسد مرة ثانية وهي تمارس حكمها على بلداتهم.
ختاما وحتى لا أطيل، فإن المعادلة الآن أن جميع المناطق التي ثارت على بشار الأسد قد تم تدميرها من قبل ثلاثي الإجرام الأسدي الروسي الإيراني، وأن هذه المناطق عادت تحت وطأة القوة من دون سكانها، وهذا يعني أن معادلة النصر الأسدي التي يتحدث عنها الواقعيون في المعارضة هي معادلة ساقطة لأن بشار لم ينتصر على الناس بل انتصر على فصائل عسكرية باعت قرارها لدول أخرى ومعارضة مهزومة ومهزوزة وساذجة، وأنا منهم ولا أبرأ نفسي من تحمل المسؤولية كاملة عن كل خطأ ارتكبته خلال وجودي في هياكل المعارضة وهو حديث آخر يحتاج أن يكون اعترافا لتحمل المسؤولية وليس مجرد اعتراف بالخطأ لإراحة الضمير، وهذا أمر سأكتب عنه قريبا وسأبدأ من الأخطاء التي ارتكبتها شخصيا وعن سوء التقدير الذي وقعت فيه في كثر من المواقف، وعن الخطأ في قراءة التطورات الذي وقعت فيه أكثر من مرة، وسأكتب عن الأخطاء التي شاهدتها وارتكبها الآخرون وتعايشت معها تحت عنوان أن معركتنا الأساسية مع بشار وأنه لا مجال لفتح معارك أخرى جانبية.
الثورة السورية انتصرت وعجزنا عن تجاوز حالة الفوضى التي أعقبت عام 2012 وحتى الآن يعني أننا نحن المهزومين وليست الثورة التي كان شعارها وسيبقى حرية وكرامة السوريين شاء من شاء وأبى من أبى.
عذراً التعليقات مغلقة